قرار "العدل الدولية" ليس كافياً
أضيف الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية، الصادر قبل أيام، إلى قائمة القرارات الإيجابية التي باتت فلسطين تحظى بها في المحافل الدولية أخيراً، لكنّه، في حقيقة الأمر، لن يُغيّر من الواقع شيئاً. وبالقدر الذي علينا فيه أن نهلّل ونستبشر بمثل هذه القرارات، علينا أن نتذكّر، بالقدر ذاته، أن هذه القرارات ذاتها بات لها أكثر من عشرين عاماً تتفاعل في أروقة مُؤسّسات القضاء الدولية، كما في ممّرات المنظّمات الدولية كافّة، منذ فتوى محكمة العدل الدولية بشأن جدار الفصل العنصري. لم يسبق، منذ ذلك الوقت، أن تبنّت محكمة العدل الدولية موقفاً ينتقص من الحقوق الفلسطينية في مناطق الدولة الفلسطينية في حدود الرابع من يونيو/ حزيران (1967). وبالطبع، هناك من يجب أن يضع ألف خطّ حول فكرة الدولة على حدود الرابع من حزيران، إذ لا شيء عن حقوق الشعب الفلسطيني التاريخية التي سرقتها النكبة وهدمتها القرارات الأممية المتعاقبة، التي أسّست لقيام دولة إسرائيل على ركام الشعب الفلسطيني وحطامه باسم المنظّمات الدولية. والمُؤكّد أنّ الرغبة في قيام إسرائيل وزرعها في المنطقة ليست وليدة وعد بلفور (1917) المشؤوم، بل إنّها سبقته بأكثر من قرن، ويمكن تتبع ذلك في كثير من خطابات الساسة والمفكّرين الغربيين، ويمكن القول إنّ دوافعهم لم تكن يوماً حُبّاً باليهود ولا حماية لهم. عموماً، بيت القصيد هنا أنّه حتّى تلك القرارات التي نصفّق لها لا تعني كثيراً في سياق الحديث عن حقوقنا غير القابلة للتصرّف، ولا عن الجرائم كلّها، التي ارتُكِبت في حقّنا منذ بدايات "تنكيبنا" مع وجود الاحتلال البريطاني، الذي يطيب لكثيرين تنعيمه وتدليعه وإطلاق اسم "انتداب" عليه، عملاً بصياغة المُحتلّ نفسه للصفات الحميدة التي يرغب في أن يُنادى بها.
يجب النضال من أجل قرارات تمسّ حقيقة الصراع ولانتقال من تسجيل النقاط والتصفيق إلى إزالة الغبن الذي لحق بالشعب الفلسطيني
ومع ذلك، لا يمكن الانتقاص من هذه القرارات، التي باتت تُشكّل هاجساً متصاعداً لدولة الاحتلال ولجنرالاتها وقادتها، خاصّة أنّهم يرون كمّية الكراهية المتصاعدة في العالم لما تقوم به من قتل وتذبيح وتشريد، الأمر الذي قد يُؤثّر في مستقبل مقدرتهم على الحركة في حال اتخاذ بعض المحاكم المحلّية، في الدول الأوروبية خاصّة، قراراتٍ تتعلّق باعتقال مسؤولين إسرائيليين، استناداً إلى فتاوى محكمة العدل الدولية وقراراتها. ومن المُؤكّد أنّ أية قراراتٍ من محكمة الجنايات ستكون مفيدة كثيراً في تصعيد النضال الحقوقي ضدّ مجرمي الحرب في دولة الاحتلال، الذين يواصلون بلا رادع وبلا خوف من المجتمع الدولي جرائمهم في حقّ أهلنا في غزّة. وعليه، فإنّ النضال من أجل مواصلة مثل هذه القرارات أمر مهمّ، وكفاح واجب من أجل محاصرة دموية الاحتلال وشهوته الحيوانية لقتل أطفالنا وتدمير بلادنا. إنّ التقاء لحظة غزّة مع تصاعد الجهود والحراك الدبلوماسي الفلسطيني الرسمي، من شأنه أن يزيد من فرص تحقيق مزيد من النجاحات في هذا الجانب. وبقدر أهمية ذلك كلّه، ثمة حاجة لتطوير أدوات النضال السياسي الفلسطيني وتثوير الكفاح في المحافل الدولية، سواء في الأمم المتّحدة أو في محكمة العدل، ومحاكم الاختصاص المختلفة.
أول ما يتبادر إلى الأذهان محاكمة جنرالات جيش الاحتلال في المحاكم الدولية لتحقيق هدفين يتمثّلان في المساعدة في الضغط لإنهاء حرب الإبادة، وفي معاقبة المجرمين على جرائمهم. نحن بحاجة إلى تطوير مواقف فلسطينية، وخطوات نضالية في المؤسّسات الدولية، لا تكون مُجرّد ردّات فعل على بشاعة ما يجري (على أهمية ذلك)، ولا على مواقف وسياسات إسرائيلية تتّخذ ضدّ السلطة الفلسطينية، بل يجب أن تتأسّس الخطوات الفلسطينية على ضرورة تسعير الصراع بما يكفل الدفع باتجاه تحقيق المصالح العليا لشعبنا.
صحيحٌ أنّ إسرائيل لا تأبه كثيراً بمواقف المجتمع الدولي، فهي قد تعبّر عن قلقها، وقد تبذل كلّ جهد من أجل إحباط أي تحرّك فلسطيني في المؤسّسات الدولية، ولكن عند اللحظة صفر، فهي لن تهتم كثيراً ولن تنجح أي قوّة دولية في إجبارها على التراجع، بالطبع ما لم يتحرّك العالم من القرارات إلى التنفيذ، وهي مرحلة يجب أن تكون ضمن خطط الدبلوماسية الفلسطينية القادمة. وهذا بيت القصيد؛ أن يتحرّك العالم، ليس لاتخاذ قرارات ناعمة في جوهرها، لا تحمل أي صيغة إلزامية له، فقط، بل يجب النضال من أجل قرارات تمسّ حقيقة الصراع. يجب الانتقال من تسجيل النقاط والتصفيق إلى إزالة الغبن الذي لحق بالشعب الفلسطيني على يد المجتمع الدولي.
مرحلة الاعتراف والانضمام للمنظّمات الدولية مرحلة مُهمّة في طريق مراكمة الاعتراف بالحقوق الفلسطينية، وإن فكرة الاعتراف بالدولة الفلسطينية عضواً كاملاً في المنظمة الدولية باتت أقرب من ذي قبل، وهو ما يجب السعي إليه بقوّة في الاجتماعات القادمة، من أجل محاصرة الفيتو الأميركي. ومع هذا، يجب تطوير أدوات نضالية في السياسة الدولية من أجل الضغط أكثر على دولة الاحتلال قد تشمل (وهذا يجب النظر في جوانبه القانونية) توقيف عضوية دولة الاحتلال في المنظّمات الدولية، بما في ذلك الجمعية العامة. هل هناك من يعيد تذكيرنا بأنّ عضوية إسرائيل في المنظّمة الدولية، واعتراف الأخيرة بها، كانا مرهونين باعترافها بقرارين، الأول قرار التقسيم الذي يتحدّث عن إقامة دولة عربية، والقرار 194 الذي يتحدّث عن عودة اللاجئين؟ نعم هذا صحيح. وثمّة وثيقة من إسرائيل بذلك من وزير خارجيتها آنذاك. إنّ تصعيد النضال الدبلوماسي يتطلّب إعادة البحث في ذلك كلّه. لا يمكن للعالم أن يواصل ادّعاء العمى وهو يرى الحقيقة، ولا يمكن أن تواصل المنظّمة الدولية منح دولة تحتلّ دولة أخرى عضويّة فيها وتمنع الدولة التي يقع عليها الاحتلال من عضويتها. العالم عمل كلّ شيء من أجل أن يساعد في سرقة بلادنا منّا ومنحها للعصابات الصهيونية. لا علاقة لنا بأخطاء التاريخ الأوروبي، ولا ذنب لنا في فساد القيم والأخلاق الغربية، التي قادت العالم إلى حربَين كونيتَين ساحقتَين، وبالطبع نحن نتعاطف مع الضحايا في التاريخ، لكن لا يمكن أن تقوم أوروبا بتدفيعنا ثمن أخطائها.
ليس العالم عادلاً إلى هذا الحدّ، لكن في الأقل لا يمكن أن يكون ظالماً إلى ذلك الحدّ أيضاً، ولا يمكن أن يواصل ربط العصبة على عينيه بحُجّة العمى، وهو يتعمّد عدم رؤية الحقيقة. ما يقوله كاتب هذه السطور هنا ضرورة التفكير في خطوات دبلوماسية إضافية من شأنها أن تتناسب مع طبيعة الصراع في المرحلة القادمة، خصوصاً أنّ التوجّهات العامة لدى دولة الاحتلال هي خلق صيغة تواصل فيها احتلال قطاع غزّة، من دون أن تسمّي هذا احتلالاً. إنّ مسألة الاعتراف والانضمام إلى المنظّمات الدولية والتوقيع على الاتفاقيات المختلفة مرحلة مُهمّة، ولكن ربما يكون الأكثر أهمّية حالياً "نزع" المكتسبات التي تتمتّع بها إسرائيل في العالم، فيما لا تعترف بهذا العالم. ويجب، وهذا مهمّ جدّاً، عدم ربط سحب عضوية إسرائيل في المنظمّة الدولية بإقرار عضوية فلسطين، بل يجب أن يكون الموقف الفلسطيني يتمثّل في أنّ حرمان إسرائيل من عضوية المنظّمات الدولية هو عقاب لها على جرائمها في غزّة، وفي كلّ مكان، وهو غير مرتبط بمنح الفلسطينيين عضوية كاملة في الجمعية العامة.
يجب تطوير أدوات نضالية سياسية للضغط على دولة الاحتلال قد تشمل توقيف عضويتها في المنظّمات الدولية
ليس هذا فحسب، بل إنّ إسرائيل تتمتّع بامتيازاتٍ كثيرة تمنحها إيّاها اتفاقيات التجارة التفضيلية مع كثير من التكتّلات والاتّحادات الإقليمية. نعم، إذا كان تبادر إلى أذهاننا الاتفاقية الفضلى التي تربط إسرائيل بالاتحاد الأوروبي فيما يشبه الشراكة الناعمة. تستفيد إسرائيل بشكل مهول من هذه الاتفاقية، سوءاً في الجانب الاقتصادي أو البحثي والعلمي، بل إنّ شركات السلاح الإسرائيلية، التي تصنع الزنّانات (المُسيّرات) والصواريخ، التي تقتل الأبرياء في غزّة، تستفيد من المِنَح البحثية التي توفّرها هذه الاتفاقية، عبر شراكات غير مباشرة مع الجامعات.
انظروا كيف تستخفّ إسرائيل بعقول أوروبا وتتجاوز سياسات "قوانين المنشأ" الأوروبية. الشركات الإسرائيلية التي تقوم بإنتاج البضائع الزراعية أو الصناعية في المستوطنات يكون مركز مكاتبها داخل إسرائيل، وبالتالي لا تظهر علامة الإنتاج الحقيقية على المنتج. طبعاً، الاتحاد يعرف ذلك، ويتظاهر بأنّ كلّ شيء وفق القوانين، متجاوزاً كلّ القيم التي يتحدّث عنها في خطاباته.
ثمّة كثير يجب فعله من أجل إعادة ضبط بوصلة التاريخ، التي انحرفت عن مسارها بقرار عالمي تمثّل في نكبة شعبنا، وجوهر ذلك أنّ العالم لا يمنّ علينا حين يقترب أكثر من تطهير ذنوبه.