قصة القدس بالإنكليزية إلكترونياً
لا تزيّد في القول إنه منجزٌ كثيرُ القيمة، موقع إلكتروني باللغة الإنكليزية عن القدس وقصّتها وروايتها وكفاحها، ليس فقط مدينةً فلسطينيةً مثقلةً برمزياتٍ روحيةٍ خاصّة، وإنما أيضا موطنا واجتماعا وذاكرةً وناسا. الكلام كثيرٌ عن القدس بالعربية، ليس المقام هنا للرأي فيه وعنه، ولا عن جمهورِه (أو جماهيره)، ولا عن فاعليّته وتأثيره. وإنما هو للتذكير بالبديهي، أي وجوب طرح السردية الفلسطينية عن القدس، بمهنيةٍ وكفاءةٍ، في العالم، بغير لغةٍ، أي بغير معجم وقاموس. هذه مهمةٌ شاقّة، ثقيلة، شديدة الوجوب منذ عقود. أهدرَت مؤسساتٌ ومنظماتٌ ومؤتمراتٌ وملتقياتٌ وقتا وفيرا في الحديث المسترسل، السهل الذي بلا جُمرك، عن أهمية هذا الواجب الملحّ، من غير أن تتنكّب الأمرَ جهةُ اختصاص، أو ذاتُ مسؤولية، إلا في حالاتٍ شحيحةٍ وجزئيةٍ، وفردانية غالبا، فتطلق مبادراتٍ مبتكرةً في نشر حكاية القدس الكاملة أمام جمهورٍ غافلٍ عنها، لا يعرفها، بل يتلقّّى الحكاية المضادّة، المزوّرة، المدّعاة، التي ينشط صهاينةٌ مدرّبون، دؤوبون، على طرحها في منابر ومنصّات ووسائط بلا عدد، بالإنكليزية والفرنسية وغيرهما.
إذن، ما أتاه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، عندما أخذ على عاتقه أن يتولّى مسؤوليةً أدبيةً، ومعنويةً، وثقافيةً، وحضارية، (وطنية، لم لا؟)، فيتبنّى مشروع إطلاق موقع إلكتروني بالإنكليزية، معنيٍّ بالقدس وقصّتها، بتاريخها وبعض راهنها، طموحٍ، جذّابٍ، متنوّعٍ، متعدّد مستويات التلقي، إذ يفترض جمهورا مختصّا معنيا بالبحث والدرس، وجمهورا آخر قارئا مهتما، وجمهورا ثالثا قارئا يتوسّل معرفةً، بتعجّل أو تمهّل، وجمهورا يعصى على التعيين والتحديد. .. اجتهدت مديرة الموقع، كيت روحانا، في بناء تصوّرٍ للمشروع، بالتعاون مع أكاديميين ومختصّين، وبالتنسيق مع التقنيين من أهل الكفاءة. وفي نحو ثلاث سنواتٍ من العمل الدؤوب والجهد والمتابعة وجمع المواد وإنتاجها، وتوفير الخرائط والفيديوهات والصور والرسوم، والمراجع والمصنّفات والمصادر والوثائق، لنكون تاليا أمام مكتبةٍ ميسّرةٍ عن القدس، عن الفلسطينيين أهلها، وعن إجراءات الاحتلال واستيطانه النشط في المدينة وحواليها. وإلى هذا كله وغيره كثيرٌ مما ليس في وسع هذه السطور الإحاطة به، حضر المقدسيون يسرُدون رواياتهم ومحكيّاتهم عن بقائهم في القدس، ومساهماتهم وما أنجزوه وقدّموه، وعن سيرهم وما ألهمتهم به المدينة، وعن كثيرٍ يتعلق بهم وبها.
تفيدُك جولةٌ في الموقع الإلكتروني (https://www.jerusalemstory.com/en) بوفيرٍ من الحقائق الاجتماعية والتاريخية والمعيشية والكفاحية عن القدس التي تُقاوم ما لا ينفكّ المحتلون يصنعونه في المدينة، تتوطّن في أخيلتهم أوهام انتصار الخرافةِ على الحقيقة، عندما يستقوون بثقافة المحو والتغلّب والإلغاء والتهجير والسيطرة، فيما المقدسيون الفلسطينيون يحمون ذاكرة القدس، ويسيّجون حكاياتها بإرادة الحياة وثقافة المقاومة. وهذا ما يقع عليه زائر الموقع الرائد، والمتنوّع بكل أسباب الانشداد إليه، والذي يُخبرنا القائمون عليه إن ما نشاهده فيه حاليا منجزُ مرحلةٍ أولى، ذلك أنه في مراحل تاليةٍ سيتغذّى بعديدٍ من الإضافات والمنتجات، سيما وأنه يتوفّر على إمكانات التفاعل معه، وفي وُسع من يريد، ويجد أن لديه شيئا مميّزا يضيفه، أن يقترح ويطرَح أفكاره، وسيلقى هذا كل اهتمام. وسيما أنه لا غضاضة في القول هنا إن هذا المنجز، إذ يستحقّ كل تثمين، ثمّة نواقص فيه، ومبتكروه والقائمون عليه، في الأول والأخير، لم يدّعوا الكمال ولا الاكتمال.
إنها القدس (أو بيت المقدس) التي وصفها ابن حوقل، في زمانه، في عمله "وصف الأرض"، بأنها "من أخصب بلاد فلسطين على مرّ الأوقات". وفي زماننا هي الأرض الخصبة بحكايات الثبات والبقاء والمواجهة، وإنْ بمكابدة. ومن جميل الموقع الإلكتروني أنه يؤالف بين اليومي والتاريخي، ويوازي بين الفردي والجماعي، ويجمع بين المتذكَّر والراهن، ويصنع في ذلك كله مادّةً غنيةً بما هو حيوي وجوهري، تُساعدك المؤثرات الفنية، وكذا أدوات الإيضاح، والصور الفوتوغرافية والمتحرّكة، على أن تفيدَ مما تقرأ وترى بيسرٍ كثير. وهذا من مريحٍ غزيرٍ يشيعه في النفس هذا المنجز، والذي يجوز تكرار القول بشأنه إنه ضرورةٌ لم تكترث بها جامعة الدول العربية والمؤتمر الإسلامي ولجنة القدس و"إلكسو" وغيرها، فتطوّع المركز العربي بالمبادرة، فكان هذا الموقع لجمهور اللغة الإنكليزية .. أي الجمهور الأعرض في العالم.