قضية ممدوح عدوان
انتبهتُ، من خلال الملف الذي أنجزه القسمُ الثقافي في"العربي الجديد" عن الأديب السوري الراحل ممدوح عدوان، إلى أن عشرَ سنوات، بالتمام والكمال، قد مضينَ على رحيله. والملف، بالطبع، يتناول الجوانب الأدبية الإبداعية في شخصيته، بينما تنتابني رغبة لأن أتحدث، هنا، عن الجوانب الإنسانية، باعتبار أنه، في زعمي: شخصية إشكالية، ومثيرة للجدل، وبالغة الأهمية.
هذا الشاعر القروي الوسيم، ذو الشعر الغزير السابل المنهمر فوق عينيه المبطنتين على شكل خصلة متحركة، أتى إلى دمشق، في الستينيات، من قرية صغيرة مجهولة في ريف حماه الغربي، اسمها "دير ماما"، ليقول لمثقفي سورية الكبار: ها أنذا.
لم يكن سهلاً عليه هذا الاقتحامُ للوسط الشعري، بسبب كثرة الشعراء، يومذاك، إلى الحد الذي مَكَّنَ شاعراً، كعلي الجندي، من إطلاق دعابة تقول إن كل شخصين يمشيان في أحد شوارع بلدته، "السَّلَمية"، هم ثلاثة شعراء. وكذلك الحال بالنسبة للبلدة الكردية "عامودا"، التي كانت تنتج من الشعراء أكثر ممّا تنتج البطيخ الأصفر. عدا عن أن النموذج الأدبي الذي كان سائداً، في تلك الأيام، يتلخّص في أن يكون المرء قاصّاً أو روائياً أو كاتباً مسرحياً، ويكون، في الوقت نفسه، شاعراً، كما هو الحال مع عبد السلام العجيلي وشوقي بغدادي وحسيب كيالي وغيرهم.
ما فعله ممدوح عدوان هو التالي: قرر أن يُلغي النوم في الليل، وأن يتحول إلى ورشة إبداعية مُنتجة، وأن يَجعل الشعرَ واحداً من أصواته المتعددة، فراح يشتغل على الأجناس الأخرى التي تحقق الحضور الذي يبتغيه.
إن الطاقة الكبيرة التي امتلكها ممدوح عدوان، والتصميم على قول شيء ما للحياة، مَكَّنَاه من أن يُصدر، في الوقت نفسه، مجموعة شعرية، ورواية، وكتاباً مترجماً عن الإنكليزية، عدا عن قصيدة منشورة هنا، وبحث منشور هناك، ومعركة أدبية حامية الوطيس يخوضها في مكان ثالث.
كان ممدوح عدوان، بشكل أو بآخر، يشتغل في الإعلام؛ وعدا عن نشاطه الصحافي المتميّز، كان يكتب أعمالاً تلفزيونية. ففي سنة 1993، مثلاً، حينما كتبتُ أنا أول تمثيلية تلفزيونية، اتصلتُ به من إدلب، وسألته إن كان يعرفُ جهة إنتاجية أُقَدِّمُ لها تمثيليتي، فقال لي إنه قد كتب، أخيراً، تمثيليتين اقتنتهما شركة السيار وسيخرجهما هيثم حقي، وزودني بأرقام الهواتف لأجل التواصل، وكان ذلك.
أوقع التماسُّ مع الوسط الإعلامي ممدوحاً في مفارقة عجيبة، تتلخص في أن الإعلام السوري كذاب، وهو رجل شفاف، وصادق، وجريء إلى حد أنه قال للمسؤولين السوريين الكبار في سنة 1980 إنه يخجل من العمل في إعلام يُخفي الإصابات بالكوليرا، ويكذب حتى في درجات الحرارة.
اشتغل ممدوح عدوان في المسرح بطريقة جد فريدة، فما كان متعارفاً عليه في السابق أن الكاتب المسرحي يعطي نصه للمخرج، ثم يأتي يوم العرض ليرى كيف أخرجه، وأما ممدوح فكان، بحسب ما أعلمني المخرج محمود خضور، يحضر البروفات المسرحية كلها، ويتفاعل مع الممثلين والمخرج والمساعدين، وكان يُعَدِّلُ في النص بما يراه مناسباً على المسرح أكثر ممّا هو مناسب على الورق. ولم يكن، كذلك، يطبع نصه المسرحي في كتاب، إلا بعد أن يستفيد من آراء الفريق المسرحي بكامله.
لعلّ أبرز ملمح من ملامح شخصية ممدوح عدوان هو العداء للركود والقوالب الجاهزة، والميل إلى التجريب. ولذلك، استهوته فكرة العمل مع الفنان الفلسطيني زناتي قدسية في المونودراما (مسرح الممثل الوحيد)، فكتب أعمالاً متميّزة، منها القيامة، والزبال، وحال الدنيا.
كان ممدوح عدوان أقرب ما يكون في شخصيته إلى زوربا كازنتزاكي، أو إلى شخصية الروائي الروسي، ميخائيل بولغانوف، ففي السهرات التي كان يعقدها الليبراليون واليساريون كان ممدوح يغني، ويرقص، وغالباً ما يكون نجمة السهرة بلا منافس.
الرحمة لروحك أبا زياد.