قوة الوطنية الفلسطينية وضعفها
لا يمكن الحديث عن هوية وطنية من دون وجود وعاء جغرافي يشكل الأساس لعمل المؤسسات السياسية والاجتماعية والتربوية وغيرها، لتشكيل هوية وطنية جامعة بين أفراد الشعب، تتجاوز الانقسامات والصراعات الطبيعية في المجتمع المعني، بالتأكيد على الجامع الكلي. وهذا لا يتعلق فقط بالرموز الوطنية، مثل العلم والجيش والمؤسسات التربوية وغيرها من المؤسسات المكونة للوعي الجمعي الوطني المتجاوز للانقسامات الاجتماعية أو الذي يظللها بوحدة الجميع، مع الحفاظ على التنوّع والصراع داخل الطبقات والشرائح والفئات المكوّنة للمجتمع ذاته. بذلك تحتاج الهوية الوطنية أيضاً إلى دولة وطنية ناجزة مستقلة، تملك مؤسّساتها وتديرها، تقوم بمهامها التاريخية للحفاظ على وحدة الهوية الوطنية، وحمايتها من الأخطار، من خلال صياغة العلاقات الاجتماعية بعقد اجتماعي وسياسي يكرّس الحقوق والواجبات الجامعة للمواطنين، ويحفظ حق الاختلاف للجميع، وينظم الصراع في المجتمع.
في تجربتهم الحديثة، افتقد الفلسطينيون الوعاء الجغرافي ومؤسّسات الدولة الوطنية. وهذا ما دفعهم إلى محاولة بناء هوية وطنية فلسطينية من التاريخ الفلسطيني السابق للنكبة، ومن خلال تعريف الذات بوصفها حالة مقاومة موحّدة في مواجهة سياسة الإلغاء الإسرائيلية، بصفة إسرائيل الدولة التي ألغت فلسطين عن الخريطة. وبالتالي، باتت الهوية الوطنية الفلسطينية معنيةً بتظهير ما تريد إسرائيل إخفاءه، ما جعل الهوية الوطنية الفلسطينية الحديثة تولد بالسلب كحالة نفي. بمعنى، لم يجر العمل على بناء الهوية الوطنية الفلسطينية في السياق الطبيعي، ببنائها من معطيات الواقع الموضوعي لتطوّر هذا الشعب، ومن خلال مؤسساته التمثيلية والحاكمة. إنما ولدت هذه الهوية بالسلب، أي بالضد من إلغائها، وعلى أهمية (وقوة) الهوية التي تولد في سياق صراعي مع عدو إلغائي، فإن الهوية المبنية بالسلب تعاني من الهشاشة في جوانب أخرى. وبالتالي، هي هوية جامعة ذات طبيعة قشرية، وليس لها عمق حقيقي بعيد عن مكونات الصراع. وكلما تراخى الزمن من دون بناء المؤسّسات القادرة على حماية الهوية الوطنية الجامعة، فإن المصير القادم للهوية السلبية هو التفكّك. لأنها لا تملك أدوات الدولة التي تحميها من الصراعات، أي أنها انتماء اختياري غير مدعوم بعمل مؤسّسات لها وظيفة الدفاع عن الهوية الوطنية وتكريسها في قلب العملية الاجتماعية التي تديرها الدولة، وغير مدعومةٍ بمؤسّسات إكراهية تدافع عن وحدة هذا المجتمع وتحميه من التهديدات الخارجية، أقصد احتكار الدولة العنف، والتي لم توجد في التجربة الفلسطينية الحديثة.
لا نجانب الصواب إذا قلنا إن الوطنية الفلسطينية الحديثة قد ولدت بعد النكبة. وبالتالي، كانت النكبة والإلغاء مكوّنين أساسيين من مكوناتها. ولأن للإلغاء هذه المكانة في تأسيس إسرائيل، أصبح المخيّم والتشرّد جزءاً مكوّناً من الهوية الوطنية الفلسطينية، ومضادّاً لعملية الإلغاء وتفشيل لجانب من جوانب المشروع الصهيوني. وبربط هذا التاريخ المؤلم والجرح التاريخي والنفسي عند الفلسطينيين بتاريخ فلسطين السابق على تأسيس إسرائيل، والذي رُفع عند الفلسطينيين إلى درجة الأسطرة، لمعادلة الألم الذي يعيشه الفلسطينيون في واقع الحال، نصبح أمام وطنيةٍ ولدت في ظروف مركّبة، تملك قوتها وهشاشتها في الوقت ذاته.
شكّلت منظمة التحرير بوصفها المشروع الوطني الفلسطيني صمغ الهوية الوطنية الفلسطينية بالمعنيين السياسي والتاريخي للكلمة
احتاج الفلسطينيون إلى مادّة لاصقة، بين الألم والوجع القائمين في حياتهم اليومية، وبين الوطن الذي استعيد من التاريخ السابق على تأسيس إسرائيل، ونقله بعد أسطرته إلى أن يكون مستقبل الفلسطينيين وخروجهم من الإلغاء. شكّلت منظمة التحرير بوصفها المشروع الوطني الفلسطيني صمغ الهوية الوطنية الفلسطينية بالمعنيين السياسي والتاريخي للكلمة، ولأنها وحدها لا تكفي، فقد عملت آليات الألم الفلسطيني، في الوطن المحتل وفي مخيمات التشرّد، على إنتاج سردية فلسطينية كبرى للألم الفلسطيني، شكّلت مواد بناء الوطنية الفلسطينية، وهو الأساس الذي عملت عليه منظمة التحرير كمادة لاصقة، وتحويله إلى مشروع وطني فلسطيني ينظر إلى المستقبل بوصفه أساساً لاستعادة الحقوق الوطنية الفلسطينية.
واحد من الأسباب التي أوجدت إجماعاً فلسطينياً على منظمة التحرير ممثلاً للهوية الوطنية الفلسطينية أنها لم تسيطر على أي تجمّع فلسطيني، ولم يختبرها الفلسطينيون سلطة قمعية. وبذلك نجت التجربة الفلسطينية من هذا الاختبار، فقد عاش الفلسطينيون تحت سلطاتٍ ليست سلطاتهم، سواء تحت الاحتلال الإسرائيلي أو سلطات الدول العربية المضيفة للاجئين. حتى عندما أدارت منظمة التحرير مناطق من لبنان في أثناء الحرب الأهلية لم يكن لها صفة رسمية هناك. وبالتالي، لم يكن وجودها وسلطتها مُشرعين. يمكن القول إن منظمة التحرير كانت تهيمن على التجمعات الفلسطينية من دون أن تحكمها، بفضل إقرار الفلسطينيين بأنها ممثلهم، وليس بفعل حكمها لهم. وهذا ما ولّد في بعض المراحل عنجهية فلسطينية وتمركزاً مرضياً حول الذات.
تعاملت السلطة الفلسطينية كسلطة جائرة مع الفلسطينيين في حالات كثيرة، ولم تستطع أن تكون جامعة للفلسطينيين في طرفي الوطن
شكّل هذا الوضع ميزة في فترة من التاريخ الفلسطيني، لكنه لن يبقى كذلك دائماً، لأن الفلسطينيين لم يعرفوا وعاءهم الجغرافي، فإن الهوية الوطنية الفلسطينية ولدت عبر آلية تناقضية. الأغلبية الساحقة من الفلسطينيين الذين يعيشون اليوم لا يعرفون فلسطين قبل النكبة، فمن ولد في ذلك العام يبلغ الرابعة والسبعين من عمره اليوم. وهذا يعني أن الكتل الفلسطينية الرئيسية في الوطن والمنافي خضعت لسلطات مختلفة، ولم تملك سلطتها الخاصة التي تؤثّر على شعبها، وتعمل على وحدة هذا الشعب عبر المؤسّسات التي تديرها، في مقدمتها المؤسسة التعليمية. وبذلك تأثرت هوية التجمعات الفلسطينية، بعوامل محلية للمناطق التي عاشت فيها هذه التجمعات الفلسطينية، سواء داخل الوطن أو في الشتات.
مع تراجع المشروع الوطني الفلسطيني، وتفكّك الإجماع العربي حوله، انطلاقاً من الصلح المصري المنفرد مع إسرائيل في كامب ديفيد عام 1978، بدأت تتكشف هشاشة الهوية الوطنية الفلسطينية. وكان انكشافها الأكبر مع اتفاقات أوسلو، حين حكمت السلطة الفلسطينية التجمّعات السكانية في الضفة الغربية وقطاع غزة، حكماً إدارياً تحت الاحتلال الإسرائيلي بموجب هذه الاتفاقات. وما يهمنا هنا أنها المرّة الأولى التي تجد منظمة التحرير نفسها تسيطر رسمياً على تجمعات فلسطينية. لا شك في أنّ اتفاقية أوسلو جرحت الهوية الوطنية الفلسطينية، بأن استثنت اللاجئين في مخيمات الشتات من الحل، ما جعلهم يشعرون بالخذلان، وهو ما شكّل شرخاً في هويتهم الوطنية. والشرخ الأكبر كان في السيطرة على السكان في الضفة والقطاع، حيث تعاملت السلطة الفلسطينية كسلطة جائرة مع الفلسطينيين في حالات كثيرة، ولم تستطع أن تكون جامعة للفلسطينيين في طرفي الوطن، ما ولّد صراعاً تحوّل إلى صراع دموي في عام 2007 قسَّم السلطة، وقسَّم القوى السياسية، وحطّم المشروع الوطني الفلسطيني، وفكّك الهوية الفلسطينية الجامعة، ونشاهد المزيد من هذا التفكّك في طغيان الهويات المحلية والجهوية والعشائرية في مناطق فلسطينية كثيرة وفي الشتات.