كأس العالم... تدخل السياسي بالرياضي
للمرّة الثانية، تستضيف قارة آسيا بطولة كأس العالم، وقد كانت تقاليد الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) إقامة البطولة بالتناوب ما بين أوروبا وأميركا باعتبار ريادة القارّتين اللعبة.. تاريخ هذه البطولة الذي يمتد إلى 90 عاما لم يخلُ من التداخلات السياسية، ولم يستطع "فيفا" النأي بنفسه دائما عما يُثار في ميادين السياسة، ولم يكن على الدوام مجرّد منظمة رياضية، الهدف منها جمع الشعوب، وإقامة التنافس بينها على أساس شريف، في جو أخلاقي وودي ورياضي خالص، فكان يقحم في أجواء المنافسة قضايا إنسانية وبيئية مختلفة، للتأكيد على الطابع السلمي للبطولة. وقد نجح "فيفا" خلال عمره الطويل في جمع كل اتحادات كرة القدم العالمية ضمن نطاقه، ويعتبر رئيسه شخصية مرموقة، ويعامل في أحيان كثيرة معاملة رؤساء الدول، ويشهد منصبه منافسات حادّة وجدّية للفوز به. لم تتمكّن المنظمة، بطبيعة الحال، من الابتعاد عن السياسة، خصوصا أنها مؤلفة من الدول نفسها التي تمارس السياسة بين بعضها بعضا. وقد ظهر خلال تاريخها الطويل عدم قدرتها على البقاء حيادية على الدوام، وأظهرت وجها سياسيا واضحا في أكثر من مرّة، أو وقفت الدول المنضوية تحت لوائها موقفا سياسيا مختلِطا مع موقفها الرياضي.
تأهلت النمسا إلى نهائيات 1938 ولكن هتلر ضم النمسا إلى ألمانيا قبل أن تبدأ البطولة، ما جعل دولة النمسا المستقلة تختفي، ونقص عدد الدول المشاركة فأصبح 15، فعُرض المقعد الفارغ على إنكلترا! ولكنها رفضت المشاركة بدافع سياسي أيضا، ولُعبت البطولة ناقصة فريقا، ولم تقم البطولتان التاليتان بسبب الحرب العالمية الثانية. وفي أول بطولة بعد الحرب عام 1950 مُنعت كل من ألمانيا واليابان من المشاركة باعتبارهما دولتين معتديتين، كما رفضت دول الكتلة الشرقية الخوض في تلك البطولة أيضا لاعتبارات أيديولوجية، وكان نظام البطولة نفسه يزدري قارّتي آسيا وأفريقيا ويحصرهما بممثل واحد! وما يثير الغضب كان اقتراح دولة جنوب أفريقيا العنصرية عام 1966 تمثيلَ الدولة بفريقين واحد أسود بالكامل والآخر أبيض تكريسا لسياسة الفصل العنصري التي كانت تعتمدها رسميا! ولكن ما حدث في البطولة يعتبر ردّا على سياسات التمييز ضد الملوّنين، فقد تأهل فريق كوريا الشمالية بعد أن هزم في دوري المجموعات المنتخب الإيطالي، وتقدّم على البرتغال ثلاثة لصفر، قبل أن يخسر بخمسة لثلاثة، وأحرز البرتغالي أوزيبيو دي سلفا فيريرا اللاعب الملوّن ذو الأصل الموزمبيقي أربعة أهداف قلبت نتيجة تلك المباراة.
من الصعوبة أن تفصل أي شيء عن السياسة، والعالم مركّب، وتحكمه علاقات سياسية في المقام الأول، وقد يكون الهدف المخفي من البطولات الرياضية التقارب السياسي تحت عناوين رياضية، وهو هدف مشروع، وطالما استخدمت الدول تبادل الفرق الرياضية بهدف تقليل الخلافات. وكانت الولايات المتحدة استخدمت ما سميت سياسة البينغ بونغ مع الصين، بهدف إذابة جليد العلاقات عندما تبادل البلدان زيارة فرق تنس الطاولة، الأمر الذي مهّد لقيام علاقات اقتصادية وتجارية واسعة مع الصين، وساهم تفاهم كرة الطاولة في احتواء حرب شبه الجزيرة الكورية.
شهدت بطولة كأس العالم الحالية أيضا تجاذبا سياسيا، فقد مُنعت روسيا من المشاركة بعد غزوها أوكرانيا، كما تعرّضت الدولة المنظّمة لهجمات متنوعة ولأهداف كثيرة، ولكن ما حدث في البطولة جعل ذلك كله يختفي، بعد أن اكتمل الاستعداد لبدء الدورة في وقت قياسي وقبل الموعد المقرر، وبحضور جماهيري كبير غطّى على الانتقادات التي طاولت الدولة المنظّمة بسبب صغر حجمها، خصوصا أن التنظيم اللافت جعل حركة الملايين تجري بنعومة وانسيابية. وإذا كانت السياسة خلفية لكل نشاط إنساني، وكأس العالم منها، فلا يضير نجاح الدورة الحالية أن يدور حولها لغط سياسي يتردّد، وبشكل دوري، مع كل نشاط كبير من هذا النوع.