كاثوليكية متأوربة وأخرى متأمركة
منعطفان متزامنان ملفتان، تعبّر المسافة بينهما عن التحوّل الذي تشهده الكاثوليكية في المشهدين، الأوروبي والأميركي. والبداية أميركيًا من حيث أعلن مؤتمر الأساقفة الكاثوليك في أميركا نيته "حرمان الشخصيات العامة التي تدعم حقوق الإجهاض من طقس (المناولة المقدّسة)، ما يشكّل توبيخًا علنيًا محتملًا للرئيس جو بايدن". ويعيد الخبر الذي بثته "سي إن إن" إلى دائرة الضوء دور المكون الكاثوليكي في السياسة الأميركية، وما ينطوي عليه من مفارقات، بل ربما مدهشات!
وقد كان أول ما لفت نظري للظاهرة عبارة صادفتني في أثناء ترجمة كتاب عن الدين في البيت الأبيض، تقول: "ساهمت علمانية كينيدي في نشوء اليمين المسيحي في السياسة الأميركية. فقد أعطى كل من المحافظين الكاثوليك والبروتستانت أولوية قصوى للحفاظ على الثقافة الدينية الأميركية". (الدين والرئاسة الأميركية، تحرير: مارك جيه روزيل، جليفز ويتني، 2018)، أي أن اليمين الديني "البروتستانتي حتى النخاع" ساهمت بقوة في ظهوره ممارسات أول رئيس كاثوليكي لأميركا.
بينما يسعى الكاثوليك في أميركا إلى تغيير المشهد السياسي الأميركي، نحو مزيدٍ من تفعيل التأثير الديني، يحدُث العكس على الجانب الآخر من الأطلنطي
وبحسب الكتاب المشار إليه، فإن معركة الحرب الباردة ساعدت على بروز الفاعل الديني/ الأخلاقي في الخطاب والممارسة، وكان الرئيس هاري ترومان من أوائل من بذلوا جهدًا لاستثمار التأثير الكاثوليكي في هذه الحرب. وعندما انتخب جون كينيدي، أكّد أن إيمانه لن يضرّ بممارسته سلطات مكتب الرئيس وواجباته. وأعرب كاثوليك كثيرون عن خيبة أملهم الشديدة من علمانية كينيدي بشأن قضايا الكنيسة والدولة. على المدى الطويل، ساهمت علمانية كينيدي في عزل كاثوليك عديدين محافظين عن الحزب الديمقراطي، ومنذ الستينيات أصبح كاثوليك كثيرون يفضّلون الحزب الجمهوري.
في المقابل، أشاد الكاثوليك الليبراليون بعلمنة كينيدي وتحديث الكاثوليكية، وأكد كرادلتهم بفخر أن كينيدي "لم يسمح مطلقًا لعقيدته بالتدخل بأي شكل في علاقاته مع الآخرين". ومع ذلك، وبحسب الكتاب المشار إليه، أعرب الكاثوليك المحافظون عن أسفهم لأن إيمان كينيدي بالحلول العلمانية للمشكلات العامة أدّى إلى تهميش الإلهام الديني. في كل من العلاقات الدولية والسياسة الداخلية، كان كينيدي يبشّر بـ"إنسانية علمانية" بدلاً من رسالة روحية. وعلى النقيض من ذلك، فإن المناخ الأميركي في 2021 يتسم بتوقع أن الإيمان سيوجه مواقف السياسة العامة. المثير أنه مع الاهتمام الكبير باليمين الديني الأميركي (البروتستانتي في المقام الأول)، لا توجد إلا درسات قليلة عن التأثير الكاثوليكي في السياسة الأميركية. وفي 1995، أعلن القس الإنجيلي الشهير بات روبرتسون إطلاق "التحالف الكاثوليكي"، لتكوين رابطة أقوى بين الإنجيليين المحافظين والكاثوليك التقليديين لتعزيز القضايا المشتركة، وكان الهدف المعلن: "تغيير المشهد السياسي الأميركي".
صدرت عن الفاتيكان مواقف تدين ممارسات رسمية تضيق على الرموز الدينية في الفضاء العام والمؤسسات الرسمية
وبينما يسعى الكاثوليك في أميركا، بحسب الهدف المعلن منذ عقدين، إلى تغيير المشهد السياسي الأميركي، نحو مزيدٍ من تفعيل التأثير الديني، يحدُث العكس على الجانب الآخر من الأطلنطي. فقد أعلن الفاتيكان نيته ترشيح رجل الدولة الفرنسي روبرت شومان، أحد مؤسّسي أوروبا الحديثة، لنيل صفة "قديس" كاثوليكي. وقد كان لشومان، الذي رحل عام 1963، دور مفصلي في إيجاد مؤسسات أوروبا الحالية. وقد اقترح عام 1950 ما أصبح يُعرف بـ"إعلان شومان"، ويجري الاحتفال بيوم إعلانه باسم: "يوم أوروبا". وكان شومان أول رئيس لبرلمان أوروبي، ومنح لقب "أبي أوروبا"، وكان متدينًا بشدة.
تكريم شومان "جسرٌ" قد يكون الأول من نوعه بين الفاتيكان والمشروع الأوروبي، فمنذ نشب الجدل الكبير بشأن مسودة الدستور الأوروبي عام 2003 والفاتيكان يرفض ما اعتبره "تهميش المسيحية" في المشروع الأوروبي، حيث طالب بابا الفاتيكان وبعض الحكومات الأوروبية بذكر لفظ "الله" في ديباجة الدستور، وبعد جدل طويل صدر الدستور من دون أي إشارة دينية. وصدرت عن الفاتيكان لسنوات مواقف تدين بعض الممارسات الرسمية التي تضيق على الرموز الدينية (المسيحية وغير المسيحية)، في الفضاء العام والمؤسسات الرسمية. والاختيار الدقيق لروبرت شومان، المشهور بتديّنه، لفتة تاريخية مهمة على طريق مشروع وحدودي، شكلت قضية الهوية فيه صداعًا دائمًا وموضوع صراعٍ لا يكاد يتوقف.
هل تشهد الكاثوليكية على جانبي الأطلنطي تأكيدًا لسماتٍ متباينةٍ تميز "كاثوليكية متأوربة" عن أخرى "متأمركة"؟!