كان عاماً مليئاً بالتفاهات
لا جدوى، في رأيي المتواضع، من الاهتمام برأس السنة، سيما إذا تعلق الأمر بشعبنا المنكوب. إنّ قَتل العسكر إرادة الشعب، وانضمام أصحاب الأيديولوجيات السياسية إلى الثورة بهدف الحصول على السلطة، من شأنهما أن يُدخلا البلاد في متاهة لا تُحسب بالأيام والأسابيع والشهور والسنين، بل بالعقود، وأرباع القرون. اسأل اليوم أي واحد من المحللين السياسيين: متى تتوقع نهاية للمقتلة السورية؟ يقلْ لك: لن يكون ذلك على زماني.
وعلى الرغم من كلّ هذه الانتكاسات والخيبات والهزائم؛ تمتلئ صفحات التواصل، كلما اقترب رأس سنة ميلادية، بالمماحكات والمناكفات والأخذ والرد. واحد يَنهانا عن الترحم على ميت كان هو قد حَكم عليه بالكفر، وآخر يحذّرنا من تهنئة أبناء الديانة (أو الطائفة) الفلانية بأعيادهم، وإذا كان قلبُنا طيباً أكثر مما ينبغي، فلنسلّم عليه من بعيد. وآخر يحرم الاحتفال بكل شيء، حتى برأس السنة الهجرية وعيد المولد النبوي، فكأنّ ابن هذه البلاد التعيسة قد خُلق للغمّ، والنكد، ومَط البوز إلى الأمام شبرين، فإذا فرح، أو ضحك، أو احتفل، عليه أن يستغفر ربه، ويتوب، ويقول: الله يعطينا خير هذا الضحك.
التقيت، قبل سنوات، بإنسانٍ ذي أهميةٍ ثقافيةٍ وفكريةٍ لا يُستهان بها، وسألني إن كنت أدخل إلى صفحات مواقع التواصل، أجبته بـ نعم، فقال لي إنّه يرى ذلك مضيعة للوقت، لذا يكتفي بالدخول إلى صفحته في "تويتر" مرة في اليوم، ينشر مقالة جديدة له، إن وجدت، ويحذف المسبّات التي توجه إليه، ويخرج. استغربتُ من عدة أمور دفعة واحدة، أولها؛ لماذا نتعامل، نحن أبناء هذه البلاد المنكوبة بالمسبّات أساساً؟ وثانيها؛ لماذا توجّه المسبّات إلى شخصية ثقافية وفكرية مهمة، من أناسٍ أقل أهمية منه على الأغلب؟ وثالثها؛ إنّ الاختلاف بالرأي كان، في السابق، يدخل في صميم ثقافتنا، فلماذا نهرب اليوم إلى الأمام، ونسعى إلى تقزيم صاحب الرأي الآخر، وإهانته بدلاً من محاورته؟ ورابعها أنّ هذا الاستفزاز يولّد طاقة ذهنية سلبية تكبلنا، وتقلل من إبداعنا، وتؤدّي إلى معارك جانبية نخسر فيها جميعاً.
في سنة 2021 الفائتة؛ لم يخطر لي أن أحصي المرّات التي قيل لي خلالها "أنت تافه"، فهي كثيرة جداً. وكنت، في كلّ مرّة، أزعل، وأغضب، وأردّ على كاتبها بعصبية، ثم أنهي المناكفة بـ البلوك. لكنّ حكاية أرسلها إليّ الصديق المحامي جورج خربوط أثلجت فؤادي، وجعلتني أتشرّب مسألة التفاهة، وأتقبلها. قال: كان الأديب الأيرلندي الكبير جورج برنارد شو (1856- 1950)، يلقي محاضرة في مناسبةٍ ثقافيةٍ ما، وبينما الجمهور الكبير في القاعة يستمع إليه بمحبة وشغف، وقف واحد من الناس، وقال له: أنت برأيي تافه. فقال برنارد شو: وأنا أشاركك هذا الرأي، لكن بماذا يفيد رأيانا، أنت وأنا، أمام كل هؤلاء المعجبين؟
لا يوجد أيّ وجهٍ للمقارنة بيني وبين برنارد شو، بالطبع، فهو كاتب كبير يحتل مكانة قوية في وجدان الناس، على مستوى العالم. لكنّ الحجَر الذي لا يعجبك، على قولة المثل، يشجّ رأسك، وستستغرب إذا أخبرتك أنّني متفوّق عليه بأمور كثيرة، منها أنّه اتهم بالتفاهة مرة واحدة، وأنا أتَّهم بها على نحو شبه يومي. ومنها أنّ لغة برنارد شو الأصلية، الإنكليزية، فقيرة بمفردات السباب، بدليل أنّ مترجم رواية التشيكي ياروسلاف هاشيك "الجندي الطيب شفيك" إلى الإنكليزية وقف حائراً أمام تنوّع قاموس الشتائم التشيكي وغناه، وحينما ترجمها توفيق الأسدي إلى العربية لم يجد أيّ صعوبة، لأنّ قاموسنا لا يقلّ غنى عن التشيكي. ولو كان برنارد شو نفسه على قيد الحياة لوقف حائراً أمام المسبّات التي نتلقاها نحن الكتاب العرب، مثل: شسع نعل، إمّعة، رويبضة، كرّ.