كرة القدم والسياسة وأحلام الفقراء
نقلت صحيفة التايمز البريطانية أن الرئيس البرازيلي المنتخب أخيرا، لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، ووزراء حكومته، فرحوا عندما رأوا لاعب منتخب البرازيل نيمار يعرج، وهو يُستبدل في المباراة في مونديال قطر أمام صربيا. وحسب الصحيفة فإن مردّ سخطهم على النجم البرازيلي الأول أنه كان يدعم الرئيس اليميني جايير بولسونارو، الذي انهزم في الانتخابات الرئاسية أمام اليساري لولا. كما امتنع الفريق الإيراني عن ترديد نشيده الوطني في مباراته الافتتاحية أمام إنكلترا، ما اعتبر تضامناً مع الاحتجاجات في إيران.
ليست هذه المواقف السياسية الوحيدة المرتبطة بالمونديال في قطر، فلطالما كانت كرة القدم مثقلة بالسياسة، خصوصا عندما تخاض مبارياتها تحت رايات وطنية. ومعروف أن تصفيات كأس العالم المؤهلة لمونديال المكسيك في العام 1970 تسببت في حرب بين هندوراس والسلفادور عرفت باسم "حرب كرة القدم، خلفت مقتل ثلاثة آلاف شخص بينهم مدنيون، وأكثر من 15 ألف جريح وآلاف المشردين. لم تكن المباراة وحدها سبب الحرب، لكنها الفتيل الذي فجر الحرب.
كما هي كرة القدم مثقلة بالسياسة، فهي مثقلة بأحلام الفقراء أيضاً، فليس هناك طفل في جيلي لعب كرة القدم لم يحلم بأن يصبح من نجومها، مهما كانت محدودية موهبته، لأن عديدين من نجومها جاؤوا من القاع وصعدوا إلى القمّة، في لعبة تصنع النجوم، وهي لا تحتاج بنظر الحالمين سوى كرة مهما كانت رداءتها، ومكان للعب حتى لو كان حارة ضيقة في مخيم بائس.
لم يكن يوماً تشجيع فرق كرة القدم حيادياً في مباريات كأس العالم، فهذا الحدث الكبير يقع تحت ثقل التاريخ والصراعات واصطفافاتها وتحالفاتها
كان تشجيع فرق كرة القدم في المونديال بالنسبة لأبناء جيلي مجبولاً بالسياسة، ويبقى مونديال 1982 هو الأكثر رسوخاً في ذاكرتي، ففي ذلك العام ترافق مع الاجتياح الإسرائيلي للبنان وحصار بيروت ثلاثة أشهر، بدأ وانتهى وبيروت محاصرة وتتعرّض للقصف الوحشي، وكانت إحدى متع المقاتلين المنهكين من الحرب والحصار أن يجدوا فسحة لمشاهدة بعض من مباريات المونديال. عندما انتهى، والحرب مستمرّة، قدّم المنتخب الإيطالي الذي أحرز الكأس فوزه هدية للفلسطينيين المحاصَرين، ما أغضب الإسرائيليين بشدة. وليس غريباً أن يشجع فلسطينيون كثيرون إيطاليا لهذا السبب، وكان من المؤسف أن لا تصل إلى المونديال هذه السنة وتخرج من التصفيات.
لم يكن يوماً تشجيع فرق كرة القدم حيادياً في مباريات كأس العالم، فهذا الحدث الكبير يقع تحت ثقل التاريخ والصراعات واصطفافاتها وتحالفاتها، فكان من المستحيل أن تجد أحداً في الأوساط الفلسطينية مشجعاً للفريق الإنكليزي، ليس لرداءة أداء الفرق، بل لسبب سياسي، يعود إلى دور بريطانيا الأساسي والحاسم في المأساة الفلسطينية. لا يمكن فصل المنتخبات الوطنية عن سياسات حكوماتها، ولأن المونديال منافسات وطنية بأدوات الرياضة، لا تنجح معه كل النداءات إلى فصل الرياضة عن السياسة. قد يحدث ذلك بين مشجّعي الأندية، لأنه مع تحول كرة القدم إلى صناعة تدرّ مالا كثيرا منذ عقود، ولم تعد تقتصر على كونها رياضة لها مشجّعوها ونجومها، فقد بات تشجيع النوادي نوعا من الهوية الكروية المتعصبة، تراها بين الأصدقاء الذين يشمتون ويشتمون بعضهم بعضاً عندما يفوز ناديهم ويخسر النادي الخصم.
مع المونديال تحديداً، ولأنه المنافسة الأهم في كرة القدم، يصبح الموضوع مختلفاً والهويات هنا لا تبقى شخصية، مثلما هي الحال مع تشجيع النوادي، فهي في هذه الحالة فرق وطنية، تحت رايات وطنية تحاكي مشاعر تفوّق وطني، يحتاج إلى الفوز في المباراة ليتعزز.
مونديال العام 1990، والذي أقيم في إيطاليا غيّر علاقة مارادونا مع الإيطاليين إلى الأبد
مارادونا المثال الأبرز على ذلك. حدث ذلك عندما كان النجم الأسطوري محبوب الجميع، وخصوصا في نابولي، إذ كان يلعب في صفوف الفريق الإيطالي، وقاده إلى عدة إنجازات في تلك الفترة، إلا أن مونديال العام 1990، والذي أقيم في إيطاليا غيّر علاقة مارادونا مع الإيطاليين إلى الأبد. شاءت الأقدار أن يلتقي المنتخب الأرجنتيني بالمنتخب الإيطالي في نصف نهائي البطولة، وأن يكون مكان اللقاء ملعب سان باولو في نابولي، انقسمت المشاعر في نابولي، بين حب مارادونا وحب إيطاليا. هناك من دعا إلى تشجيع الأرجنتين حباً في مارادونا الذي جعل لنابولي التي تقع في الجنوب مكانة كبيرة وسط أغنياء الشمال الإيطالي، وكسر النظرة الدونية لهم. ومنهم من دعا، بطبيعة الحال، إلى تناسي الخلافات الداخلية بين أبناء الشعب الإيطالي والوقوف صفاً واحداً خلف منتخبهم الوطني، إلا أن الأغلبية اختارت الوطن على النجم الأسطوري، وتجلى ذلك في الشعار الذي رفعته الجماهير في المدرّجات والتي قالت "مارادونا إن نابولي تعشقك، ولكن إيطاليا بلدنا". وكان ذلك رداً مهذباً من جماهير نابولي على مارادونا الذي كان قد طالبهم بمساندته والأرجنتين عوضاً عن إيطاليا، متعللاً بأن إيطاليا كحكومة ودولة لا تنظر إلى نابولي، على وجه الخصوص والجنوب بشكل عام، بأي اهتمام وتقدير. كانت هذه المباراة هي التي حطّمت جماهيرية ماراودنا في إيطاليا.
إحدى مفارقات مونديال قطر أن يسجّل المهاجم السويسري بريل إمبولو هدف الفوز الوحيد لسويسرا على الكاميرون، بلده الأصلي الذي غادره طفلاً، ما جعل اللاعب غير قادر على الاحتفال مع رفاقه بهدفه، كما يليق الاحتفال بهدفٍ تم تسجيله في المونديال. وليس هذا فحسب، بل هاجم بعضهم منزل والده في عاصمة الكاميرون، ياواندي، لأن أبنه سجل في مرمى الكاميرون، وهو ما اعتبره المهاجمون فعلا يرقى إلى درجة الخيانة، يتحمّل الأب من خلاله ما فعله ابنه.
رغم كل الحمولات السياسية لكرة القدم، إلا أن المونديال ذاته مناسبة لتعزيز أحلام الأطفال الذين يشاهدون النجوم الذين يفضلونهم والذين صعدوا من القاع ومن أماكن قريبة منهم، أو جاؤوا من أماكن فقيرة مثل التي يعيشون فيها. لن يكون غريباً أن يشعل المونديال الممتع في قطر والمتخم بالنجوم خيال الأطفال الذين يحلمون بأن يصبحوا نجوماً، وأن يمارسوا بأقدامهم اللعبة المثقلة بالسياسة.