كلام فارغ .. حقوق الإنسان
يعود تاريخ هذه الحكاية إلى أواسط التسعينيات. كان صديقُنا فراس رجلاً مثقفاً، متنوّراً، مناوئاً للاستبداد بطبعه. استُدعي إلى أحد فروع الأمن بناء على تقرير ينصّ على أنه عضو في إحدى جمعيات حقوق الإنسان. إذا قلنا لمواطن أوروبي، اليوم، إن تهمة الانتماء إلى جمعية حقوق الإنسان في سورية خطيرة جداً، فقد لا يصدّق، ليقينه أنها جمعيات حيادية، لا يضر عملُها بأحد، ولا يجوز، من ثمّ، أن يُعاقَب أعضاؤها.
هذا الأوروبي لا يعرف أن أحداث مدينة حماه، سنة 1982، استمرّت زمناً طويلاً، وقُتل خلالها بضعُ عشرات من الألوف من المواطنين، وهُدمت بضع حاراتٍ على رؤوس ساكنيها، ولم تأتِ على ذكرها وسيلةٌ إعلاميةٌ واحدة، باستثناء خبرٍ هزيلٍ بثته إذاعة لندن، أشارت فيه إلى وقوع اشتباكاتٍ بين القوات الحكومية ومتمرّدين... وبهذا تكون جمعيات حقوق الإنسان هي الأخطر بالفعل، لأنها تُخرج أخبارَ الجرائم التي نرتكبها بين بعضنا إلى خارج البلاد.
استقبل فراس، حينما حضر إلى الفرع ضابط برتبة عالية، أي ليس من ذوي الرتب الصغيرة اللجوجين الذين يمسكون الأرنب ويعذّبونه حتى يعترف بأنه ديك هندي! افتتح الضابط التحقيق بقوله: أهلاً بك يا أستاذ. أنا أوصيت الشباب بأن يعاملوك كما يليق بك وبأمثالك من المثقفين الوطنيين الذين نعتزّ بهم. وإذا شئت الصراحة، أنا لم أصدّق أن إنساناً وطنياً مخلصاً مثلك يمكن أن ينتسب إلى "جمعية حقوق الإنسان" وهو يعرف أنها منظمة مشبوهة، متخصّصة بالتجسس على الدول التي تقاوم الوجود الصهيوني في المنطقة. ثقتي بك، وبحبّك الوطن، جعلتني أسألك، بكل بساطة، إن كنت عضواً في هذه المنظمة أم لا.
قال فراس: كلامك، يا حضرة الضابط، أراحني، ووفّر عليَّ عناء الإنكار واللفّ والدوران، وحلفان الأيمان المغلّظة، سأعطيك الجواب على سؤالك واضحاً، ومقشّراً: أنا ضد حقوق الإنسان. فتح الضابط عينيه على مصراعيهما من شدّة الدهشة، وقال: ماذا تقول؟ ردّ عليه فراس بلغة الواثق، مع ابتسامةٍ حاول أن يجعلها بريئة: مثلما قلت لك. أنا حينما كنت صغيراً؛ أخذني أبي إلى المدرسة، وقال للمدير والمعلمين: اللحمُ لكم والعظم لي. يعني بإمكانكم أن تستمرّوا بضرب ابني ورفسه وتعجيقه حتى يصبح عفيسة، شريطة ألا تكسروا عظامه. ولم يكن أبي هو الوحيد الذي عرض هذه الديباجة على إدارة المدرسة، بل معظم الآباء فعلوا مثله. والمعلمون لم يقصّروا معنا بالضرب، الله وكيلك، مَن كان يمرّ قرب مدرستنا في أثناء الدوام لن يفوته سماع أصوات ولاويلنا، فكأنه مارٌّ بجوار قبو تابع لفرعكم. وهذا لا يعني أنني معترضٌ على ما يجري في أقبيتكم. بالعكس، ضربُكم الناسَ، في نظري، ضروري جداً، وأنا واثقٌ أنك، خلال عملك الطويل هنا، لم تصادف معتقلاً اعترف بجريمته بأريحية، ومن تلقاء نفسه. أبي ورجال بلدتي هم الآخرون كانوا على صوابٍ عندما أعطوا معلمينا صلاحية ضربنا، لأن قلة الضرب ميوعة، حاشاك. وأنا سمعتُ، ذات مرّة، معلماً يمتدح تلميذاً مهذباً فيقول: هذا الولد مربّى، شبعان ضرب في بيت أهله.. وحينما كبرتُ، صرت أميل إلى الشدّة والحزم أكثر، وصرت أتابع أخبار القادة العظام الذين كانوا يقتلون الأعداء، ويلقون جثثهم في الصحاري، أو في الأنهار. والأعداء، كما تعلم، ليس فقط الصهاينة المجرمون، فالمعارضون السياسيون يحتاجون للقتل قبل سواهم، ولعلّ أكثر مَن أعجبني من الشخصيات التاريخية المعاصرة موسيليني وهتلر وستالين وقائدنا المفدّى حافظ الأسد، هؤلاء لم تأخذهم بالمعارضين رحمة، ولا قولة "يا أمي ارحميني".. الخلاصة، يا سيادة الضابط، أنا أؤيد ما ذهبتَ إليه حضرتُك، فنحن دولة حدودية، معادية للصهيونية، ولا يمكن أن ننتصر، أو نصمد، إذا لم يعامِلْ قائدُنا شعبَنا بالدعس والمعس، وبلا منظمات حقوق إنسان، وحيوان، بلا كلام فارغ!