كلمة السرّ في انفصال سنغافورة
يربط لي كوان (أول رؤساء سنغافورة) أول خيط انفصال سنغافورة بالفتنة الطائفية، ويتهم بقوة وكثافة أحد أبرز مسؤولي "أمنو" (المنظمة الوطنية الماليزية المتحدة) المتورّطين في التحريض، ويوثّق ما نشرته الصحافة الملايوية عنه، من تحريض وإثارة تتهم لي كوان وقيادة حزبه بعد نجاحهم الانتخابي، وهو حزب العمل الشعبي، بأنهم يستهدفون المسلمين المالايويين ويضطهدونهم. وهو ما ينفيه لي كوان، ويقدم الدلائل على ضدّه، من أن سياسات حزبه كانت تحتوي الجميع، هذا الزعيم الذي احتجّ لي كوان بتطرفه كثيراً في "أمنو"، هو جعفر بن محمد البار، وهو شخصية من أصلٍ عربي حضرمي، اشتهر بتبنّي خطاب التعبئة الديني والقومي، ويُحمّله لي كوان مسار التحريض على الصينيين الماليزيين. وفي كل الأحوال، كانت نتيجة الاحتقان على الأرض (1964 - 1965)، موجات من المصادمات الشعبية بين الطرفين، الملايوي والصيني، في سنغافورة والتي امتدت بعد ذلك إلى كوالالمبور، وسقط فيها ضحايا وتكرّرت في السبعينيات.
يعترف لي كوان نفسه بأن تنكو عبد الرحمن كان حزيناً جداً لهذه الأحداث وبكى ساعتها، وهو يقول إنه أسوأ يوم مر على الأمة (المستقلة حديثاً)، وبأنهُ قال، في خطابه، إنكم تعرفون أنني لم أكن مسؤولاً عن هذا الخطاب، في إشارة إلى جعفر البار، ولكن تنكو لم يكن يستطيع إدانته ومعاقبته حزبياً، بسبب الحسابات الصعبة لمخاوف المالايويين من التطرّف الآخر.
هنا نعود إلى موقف مهاتير محمد الذي كان يرد على لي كوان، بأن معالجة الأزمة تكمن في تأهيل المواطنين المالايويين وتنمية قدراتهم، وليس إعلان عجزهم لسحب مساحتهم الدستورية، وتمكين بقية الجماعات المهاجرة، من قرار الدولة السياسي والسيادي. ونحتاج هنا للإشارة إلى الحاجة الماسّة للرجوع إلى ملفات ماليزيا، من خارج قصة لي كوان ونسخته من الأرشيف الإنكليزي، والرجوع إلى كتاب تنكو عبد الرحمن غير المشتهر الذي أشار إليه لي كوان، وهو بعنوان "نظرة إلى الخلف".
الولاء قوي للغاية باعترافات متتابعة من لي كوان، في المجتمع الصيني الماليزي للشيوعية الصينية
كما أن هناك غموضاً في تاريخ جناح المالايو من الحزب الشيوعي، وفهم معادلته في الصراع وكفاحه ضد الاحتلال الإنكليزي، وإنْ كانت سياقات المشهد في ذلك الزمن تشير إلى قوة نفوذ بكين، واعتمادها على العنصر الصيني الشيوعي، ما ضاعف المخاطر على الملاويين، فالولاء قوي للغاية باعترافات متتابعة من لي كوان، في المجتمع الصيني الماليزي للشيوعية الصينية، وإن كان لي كوان يؤمن بالفكرة الليبرالية المطلقة، المتّحدة مع المشروع الغربي الإنكليزي، التي أعطت مساحةً لصالح مشروعه المدني.
يُشار هنا أيضا إلى فهم الصراع الخطير لكوالالمبور مع الجارة المسلمة الكبرى إندونيسيا، والتي كانت تهدّد عبر سوكارنو بالزحف وابتلاع ماليزيا. كان ثوب سوكارنو شيوعياً، لكن الأمة القومية التي اعتمد عليها كانت متداخلة مع المالايو قومياً، وهو ما يعني أن الخطر كان من جار مسلم تحالف مع الشيوعية العالمية ضد الميلاد الجديد، وهو ما جعل خيارات تنكو عبد الرحمن والحراك الوطني الماليزي تعيشُ ضغطاً شرساً على ميلاد الوطن الجديد. في هذا الوقت، كان لي كوان يتوسّع بقوة في مساحة شعب المالايو ويخترق دوائرهم الانتخابية، وهو يبرّر ذلك بأن هذا ضمن مفاهيم ماليزيا للجميع، غير أن مفهوم ماليزيا للجميع لم يكن تحت تفسيرٍ واحد، فتنكو الذي قبل ضغط لي كوان وضم سنغافورة اعتبر أن المقابل لموقفه الإيجابي يمنحه فرصة كمركز قومي لماليزيا، في الاستثمار في سنغافورة والاستفادة من ضمّها في المفاوضات الدولية، كونها جزءاً من الأرخبيل المستقل. وهذا ما وقف ضده لي كوان على الأرض، وهو يبرّر ذلك بحقوق سنغافورة، لكنه لا يعترف بحقوق المالايو القومية، وخشيتهم من مخاطر التذويب، ولم يتفهم ذلك. كان مشروع لي كوان متحداً تماماً، في تقديري، مع المشروع الإنكليزي بديلا أفضل. ولكن، لم يكن، في الوقت ذاته، للتاج البريطاني أن يُغضب الملاويين ويَفقد علاقته معهم، في ظل الزحف الشيوعي، فما هو مشروع لي كوان لماليزيا المختلفة؟
ليس من حقّ لي كوان أن يفرض على أمة التخلي عن قيمها ووجودها، مقابل مصالح ليبرالية ومعيشية
تقوم أفكار لي كوان، في نهاية مشروعه، على إلغاء الهوية القومية الأصلية لتاريخ الأرخبيل، وتقدّم الصينيين الماليزيين ولكن عبر الفكرة الليبرالية، فتكون القوى الشعبية للملايو هي قوة عمل وتشغيل، وتكون ماليزيا الجديدة التي تزحف عبر حزبه وتحالفاته ونشاطه المدني، أمام أخطاء النخبة الملايوية وتخلفها، في موقع الصدارة الزاحفة للأغلبية الدستورية، حينها سوف تُحسم ماليزيا خارج الأمة القومية لسكان الأرض، ويُلغى الإسلام كلياً من هوية دولة الأمة، ويُحصر في حقوق تعبد شخصي فقط. وعندها، تتحوّل ماليزيا إلى مشروع صناعي حديث تقوده أفكار لي كوان، وتقود شركاته قوة الصينيين الماليزيين، وتنحسر مساحة الملايو لتقترب من قوة عمل تشغيلية لا أمة ذات ثقافة، تجمع بين الأصالة والمعاصرة، وبين الاستقلال الحضاري الفكري والنهضة الصناعية والتعايش المدني، وهو تعايشٌ قائمٌ اليوم وتنتشر معابد الصينيين والهنود في كل مكان، ويَحظر القانون أي مسٍّ أو تعدٍ عليهم، لكن هذا ليس كافياً للي كوان. وهنا نشير إلى موقفين مهمين: الأول، جواب لي كوان عن مصير ماليزيا الحالية لأحد المسؤولين الإنكليز وقد عرض ثلاثة أمور ستسير لها، كلها مؤشر انهيار لماليزيا الحالية، لم تتحقق وولد مشروع نهضة خلافا لتوقعه. الثاني، أن تنكو عبد الرحمن، مع كل أخطائه، التي يثبتها لي كوان، تعامل بإجراءات عملية، لي كوان نفسه كان عاجزاً عنها، أمّنت استقلال سنغافورة سلمياً، وهو الهدف الثاني المهم للي كوان حين عجز عن الهدف الآخر.
لا ينكر ذلك كله تجربة لي كوان الثرية ولا تميزه، لكن ليس من حقه أن يفرض على أمة التخلي عن قيمها ووجودها، مقابل مصالح ليبرالية ومعيشية، كما أن ذلك لا يعذر المالايو من اليقظة بعد السبات الطويل، ومواصلة درب النهضة عبر الحرية السياسية وفاعلية الذات المسلمة التي تتعبد الله في النهضة كما في الصلاة.