كليوباترا السمراء المُزيّفة
أصدرت الحكومة المصرية بياناً ينفي ما تضمّنه فيلم وثائقي أنتجته "نتفلكس" عن كليوباترا، تظهر فيه سوداء البشرة، في تلميح مباشر من الشبكة إلى أن السيدة التي تربعت على عرش مصر كانت أفريقية، ما أثار استياء وجدلاً بين المصريين استمر أسابيع على مواقع التواصل الاجتماعي، قبل أن تؤكّد القاهرة رسمياً أن كليوباترا لم تكن سمراء، وأصولها العرقية هيلينية (يونانية) وليست أفريقية.
ورغم انتشار حركة المركزية الأفريقية (الأفروسنتريك) واتساع نطاق المؤمنين بها منذ سنوات عدة، لم تتحرّك مصر لمواجهتها إلا بعد أن بدأت الحركة تترجم أفكارها إلى خطوات عملية وحملات إعلامية وخطط ترويجية لفكرة أن أفريقيا هي المصدر الأصلي لحضارات كثيرة وللتفوق البشري. وبصفة خاصة، الحضارة الفرعونية التي تعود إلى ما قبل الميلاد بآلاف السنين. ورغم ذلك، اهتمّت مصر بتفنيد ما جاء في الوثائقي بشأن كليوباترا، من دون التطرّق إلى نطاق تحرّكات "الأفروسنتريك" وتبنّي بعض المشاهير أفكارها، ومنهم الممثل الأميركي كيفن هارت.
تأسّست حركة المركزية الأفريقية في ثمانينيات القرن الماضي بواسطة موليفي أسانتي، وهو ناشط أميركي أفريقي الأصل. وحسبما أعلن في ذلك الوقت، كان هدف الحركة تنمية الوعي بالثقافة الأفريقية عبر التاريخ، وتسليط الضوء حول تلك الهوية ودورها، خصوصا في الولايات المتحدة وأوروبا. وبمرور الزمن، بدت الحركة تسوّق في خطابها وأفكارها فكرة أن الأوروبيين سطوا على حضارة الأفارقة، من خلال الاستعمار المباشر للقارّة السوداء وممارسة العبودية ضد الأفارقة في الغرب. وراحت "الأفروسنتريك" تحثّ أصحاب الأصول الأفريقية في العالم، خصوصا في الغرب، على ما تعتبره إحياء لذلك التاريخ الأفريقي أو "تصحيحا" له.
معروفٌ أن الحضارة المصرية القديمة هي الأكثر تقدّماً من بين كل الحضارات القديمة، فضلاً عن امتدادها إلى بضعة آلاف من السنين قبل الميلاد. ولهذا السبب، اتجهت حركة الأفروسنتريك، في الأعوام الأخيرة، إلى استهداف موقع الريادة الذي تحتله مصر في التاريخ الثقافي العالمي. وكانت الحركة من الذكاء، بحيث تجنّبت التشكيك في أصالة الحضارة المصرية القديمة وجدارة مصر بتلك المكانة. وإنما بدأت تروج لفكرة "أفرقة" المصريين القدماء، وتُشيع أن حضارة المصريين القدماء أفريقية خالصة.
يقدّم ذلك التطوير الذي أدخله أصحاب فكرة "المركزية الأفريقية" على مقولاتهم طرحاً جديداً مختلفاً عن الفكرة الأصلية التي كانت تدعو إلى الاعتداد بالأصول الأفريقية. بل إنه يسير عكس اتجاهها، بتنسيب الحضارة المصرية إلى جذور أفريقية، وإقحامها تحت مظلة سوداء لا أساس تاريخياً لها ولا دلائل عليها في الموروثات الثقافية أو الآثار الأفريقية في أي مرحلة.
لقد ترك المصريون القدماء بصماتهم في أنحاء مختلفة من العالم، كما هو الحال في الأهرامات في المكسيك مثلاً. ولكن لا أدلة على انتقال مفردات ثقافية أو خصائص حضارية إلى مصر من محيطها الأفريقي. ولم يكتشف الأثريون ولا علماء الأنثروبولوجيا أي علامةٍ إلى احتواء الخريطة البيولوجية للمصريين القدماء على جينات أفريقية.
ليست المشكلة في لون البشرة، وإنما في اختلاق نسب وافتعال رابط عرقي لا وجود له، عبر التخفّي وراء لون القارّة السوداء. وهو ما كشفت عنه بغير وعي تينا غرافي، مخرجة الوثائقي المثير للجدل، بقولها "إن قصة كليوباترا لا تتعلق بها بقدر ما تدور حول هويتنا". وذلك في مقال لها في مجلة "فارايتي" الأميركية حاولت فيه تبرير تعمّدها أن تكون كليوباترا ذات بشرة سمراء، لكنها لم تقدّم حجّة مقنعة أو مبرّراً موضوعياً لاختيارها.
بالتالي، على المصريين توقع مزيد من حركة الأفروسنتريك، فقد انتقلت من شطحة فكرية محدودة العدد والنطاق، إلى موجةٍ تتوسّع وباتت تلجأ لوسائل دعاية وإقناع مؤثرة وفعالة، كأن تصبغ كليوباترا بلون أسمر جميل، وإن كان زائفاً.