كلّ هذا الغضب لدى الشباب في بلاد الغرب
كاتب وباحث فلسطيني. أستاذ للفلسفة في جامعة القدس المحتلة، نال الدكتوراة من جامعة ويسكونسين في الولايات المتحدة، عام 1982، عمل سنوات أستاذا في جامعة بير زيت، له دراسات ومقالات عديدة عن الخيار الديمقراطي وحقوق الإنسان.
كنّا شاهدين على مسيرات شعبية حاشدة وصاخبة في مدن كثيرة في الولايات المتّحدة وكندا، كما في مدن دول أوروبية وعواصمها، خاصّةً في الأوروبيتين، الغربية والشمالية، وذلك، احتجاجاً على عدوان إسرائيل على الإنسان والمكان والبنيان في قطاع غزّة، العدوان الوحشي المستمرّ منذ أكثر من ثمانية أشهر. كما كنّا شاهدين على لحاق طلبة الجامعات الأميركية والأوروبية والأسترالية، وغيرها، بهذا الحراك الشعبي المناوئ لذلك العدوان وداعميه والمدافعين عنه. ولم يكن خافياً أو قابلاً للخطأ أنّ الشباب هو من يتصدّر هذا الحراك، سواء داخل أسوار الجامعات أو في ميادين المدن/ العواصم خارجها. أمّا الرسالة المُوحّدة والمشتركة لهذه المسيرات والحراكات الشبابية كلّها فذات شقّّين مكمّلين: أوّلاً، وقف العدوان الهمجي على غزّة، ومعاقبة إسرائيل وقادتها على ما ارتكبته قوّاتها الغازية من جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية؛ وثانياً، التعبير عن التعاطف مع الوجع الفلسطيني واحتضان الحقوق الوطنية الفلسطينية في الحرّية وتقرير المصير ومقاومة الظلم والعدوان. وليس غريباً، في مثل هذه الحالات، أن تختلط هذه الرسالة ذات الشقّين المذكورين برسائل جانبية تبثّها جماعات مشاركة تتماهى مع حركة المقاومة الإسلامية ومنطلقاتها، أو جماعات كارهة لليهود من منطلق عنصري.
نحن بصدد جيل تخلّص، خلافاً للجيل السابق، من وزر المسؤولية عن جرائم الوحش النازي ضدّ يهود أوروبا وغيرهم
وهناك ملاحظات تساعد في رشّ مزيد من الضوء على دوافع (وتحيّزات) القائمين على تلك المسيرات والحراكات، والمشاركين فيها، فالمسيرات الشعبية الصاخبة، وحراكات طلبة الجامعات الأكثر صخباً، كلّها تَحدُث في دول ديمقراطية ليبرالية، ولا تَحدُث في غيرها، إلا فيما ندر. وبصورة خاصّة، تكون هذه المسيرات والحراكات أكثر اتساعاً وأشدّ صخباً في تلك الدول الديمقراطية الليبرالية التي ناصرت إسرائيل في حربها على غزّة، مثل الولايات المتّحدة والمملكة المتّحدة وفرنسا وألمانيا، وغيرها. في الدول الديمقراطية الليبرالية، كما نعرف جيّداً، هناك احترام لحقوق الإنسان/ المواطن، يشمل حقّه في حرّية التعبير بأشكالها المختلفة، وهناك، في المقابل، تأثير للمواطن على الممثّل المُنتخَب وصاحب القرار. أمّا في الدول غير الديمقراطية، فهامش حرّية التعبير أضيق، وحرّية الاحتجاج غير مُرحّب بها من السلطات الحاكمة.
وليس خافياً أنّ الجاليات الفلسطينية والعربية والإسلامية في الدول الديمقراطية الليبرالية، المذكورة أعلاه، هي التي تتصدّر تلك المسيرات والحراكات في ميادين المدن/ العواصم والجامعات. ولكنّ المشاركة في تلك الفعّاليات الاحتجاجية لا تقتصر، بالتأكيد، على تلك الجاليات، فقد انضمّت إلى قوافل المحتجّين جماعات متنوّعة تشمل المعادين للصهيونية فكراً ومشروعاً، أنصار الدولة الديمقراطية الواحدة من النهر إلى البحر، وأنصار حقوق الإنسان المحلّيين والدوليين، وأنصار مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها، وجماعات سلام أخرى وخزت ضمائرَها تلك الفظائع والجرائم التي ترتكبها القوّات الإسرائيلية الغازية ضدّ المدنيين، خاصّة النساء والأطفال، وضدّ الأعيان المدنية، سيما المشافي والمنازل. ما يجمع المشاركين في تلك الفعّاليات الاحتجاجية ليس تأييد حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، وليس العداء لليهود، وإنّما الحس الإنساني/ الأخلاقي الذي استنفرته مشاهد القتل والتدمير والتجويع والنزوح، مشاهد مروّعة أوصلت إلى تحريك قضايا في المحاكم الدولية ذات العلاقة.
وليس خافياً، أيضاً، أنّ الشباب، سواء الفلسطيني/ العربي/ الإسلامي أو الأميركي/ الأوروبي، وغيرهم، هم من يتصدّرون هذه المسيرات والحراكات؛ شباب وحّدهم الالتزام بقيم الحرّية والمساواة والعدالة، والنضال ضدّ الظلم والقهر والاضطهاد. غنيّ عن القول في هذا الصدد أنّ تلك المسيرات والحراكات الشبابية تُذكّر بمثيلات لها ضدّ الحرب في فيتنام، في النصف الثاني من ستينيّات القرن الماضي، كما تُذكّر بمثيلات لها ضدّ نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا في ثمانينيّات القرن ذاته. وفي حالتي الشباب الأميركي والأوروبي، تحديداً، فنحن بصدد جيل تخلّص، خلافاً للجيل السابق، من وزر المسؤولية عن جرائم الوحش النازي ضدّ يهود أوروبا وغيرهم. وفي بعض الدول الأوروبية الديمقراطية الليبرالية، حيث تضيق الفجوة بين الموقف الحكومي وما يطالب ويهتف به المتظاهرون، سواء داخل أسوار الجامعات أو خارجها، فقد سارعت تلك الدول إلى اتّخاذ مواقف آكثر انحيازاً إلى القضية الوطنية الفلسطينية، مقترنة بمواقف غاضبة على إسرائيل وممارساتها الوحشية، في غزّة بخاصّة، والمناطق الفلسطينية المُحتلّة منذ عام 1967 بعامّة. وما اعتراف كلّ من إسبانيا وأيرلندا والنرويج وسلوفينيا بالدولة الفلسطينية، أخيراً، إلا خير دليل على ذلك.
من المؤسف والمحزن حقّاً، وإن لم يكن مستغرباً، غياب (أو ندرة) المسيرات والحراكات في الغالبية الساحقة من الدول العربية والإسلامية
بناء على ما ورد أعلاه من ملاحظات، يمكن تأكيد نقاط ثلاث. أولاً، من الواضح أنّ المسيرات الشعبية في ميادين المدن/ العواصم، والحراكات داخل أسوار الجامعات، تؤثّر في الممثّلين المُنتخبين وأصحاب القرار في تلك الدول الديمقراطية الليبرالية؛ مواقع انطلاقتها. ولكن، من الصعب، حالياً، قياس مدى هذا التأثير وتجلّياته، فالأمر منوط بعوامل أخرى كثيرة، منها مدى اتساع نطاق هذه المسيرات والحراكات وديمومتها، ومدى تأثير ما تُصدره المؤسّسات الإنسانية والحقوقية من تقارير وتوصيات، وما يصدر عن المحافل والمحاكم الدولية من قرارات، ومدى تأثير القوى واللوبيات المضادّة، وتطوّرات الأوضاع ذات العلاقة بالحرب، محلّياً وفي مستوى الإقليم... وهكذا.
ثانياً، رغم الصعوبة في قياس الأثر وتقييمه، لا يجوز التقليل من أهمّية تلك المسيرات الشعبية الصاخبة في المدن/ العواصم، وتلك الحراكات الطلابية في الجامعات الكثيرة، في توعية الرأي العام وصاحب القرار وتحريكهما في المستويات المختلفة، خاصّة لغرض التصدّي للقضايا الحارقة والعاجلة ذات العلاقة بالحرب على غزّة، وعلى رأسها القضايا الإنسانية والإغاثية والقانونية/ الأخلاقية، كحظر استهداف المدنيين والأعيان المدنية، وعدم الحرمان من الغذاء والدواء والوقود. أمّا في ما يتعلق بقضايا اليوم التالي للحرب، واليوم الذي يليه، فإنّ عملية قياس الأثر وتقييمه تظلّ غاية في الصعوبة. وعلى أيّ حال، وبفضل هذه المسيرات والحراكات، جزئياً، يتكشّف الوجه القبيح والمنفر للاحتلال الحربي الإسرائيلي، وللقائمين على ترسيخه وإدامته.
ثالثاً، من المؤسف والمحزن حقّاً، وإن لم يكن مستغرباً، غياب (أو ندرة) تلك المسيرات والحراكات في الغالبية الساحقة من الدول العربية والإسلامية. ففي تلك الدول التي تدعم المقاومة أو المتحالفة معها، لم يرَ الشباب قيمة مضافة، على ما يبدو، لأيّ مسيرة شعبية داعمة أو لأيّ حراك طلابي داعم. أمّا في دول التطبيع العربي، فلم يجرؤ الشباب، على ما يبدو، على تحدّي أنظمة الحكم غير الديمقراطية ومساءلتها عن تخاذلها في مواجهة تلك الجرائم التي تُرتكب ضدّ المدنيين والأعيان المدنية في القطاع. وفي جميع الأحوال، هناك أكمة وراء هذا التراخي أو الوجل من الشباب في معظم الدول العربية والإسلامية يجدر استكناه ما وراءها.
هي مسيرات وحراكات يتصدّرها الشباب الغاضب داخل أسوار الجامعات وفي المدن/ العواصم خارجها
وللإجمال، ففي ردّها الوحشي والهمجي على عملية طوفان الأقصى، يوم 7 أكتوبر (2023)، ارتكبت القوات الإسرائيلية الغازية جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية في حقّ المدنيين، أوصلتا دولة الاحتلال وقادتها إلى قفص الاتهام في المحاكم الدولية ذات العلاقة. وما زالت مثل هذه الجرائم ترتكب بعد مرور أكثر من ثمانية أشهر من اندلاع الحرب المدمّرة للإنسان والمكان والبنيان في قطاع غزّة. وفي الدول الديمقراطية الليبرالية، مثل أميركا وكندا وبريطانيا وجنوب أفريقيا وأستراليا ونيوزيلندا واليابان ودول الاتحاد الأوروبي، انطلقت مسيرات شعبية صاخبة في المدن، وحراكات طلّابية غاضبة في الجامعات، تطالب بوقف الحرب ومحاسبة القائمين عليها والداعمين لها. وما زالت هذه المسيرات والحراكات تزداد صخباً وانتشاراً. وإذا كان من الصعب قياس أثر مثل هذه المسيرات والحراكات وتقييمه، فإنّ أصداءها في مجالَي التوعية وإيقاظ ضمائر الأحرار في العالم غير قابلة للتجاهل والإنكار.
ختاماً، ما نحن بصدده هي مسيرات وحراكات يتصدّرها الشباب الغاضب، داخل أسوار الجامعات، وفي المدن/ العواصم خارجها، شباب غاضب وحريص على عدم ضياع صرخته الغاضبة ضدّ الظلم في الصحراء.
كاتب وباحث فلسطيني. أستاذ للفلسفة في جامعة القدس المحتلة، نال الدكتوراة من جامعة ويسكونسين في الولايات المتحدة، عام 1982، عمل سنوات أستاذا في جامعة بير زيت، له دراسات ومقالات عديدة عن الخيار الديمقراطي وحقوق الإنسان.