09 نوفمبر 2024
كل هذا الغضب الأردني
لم يكن لإعلان الحكومة الأردنية تخفيضاً في أسعار البنزين، ولا لإقبال الأردنيين الواسع على حفلات مهرجاني جرش والفحيص، ولا انشغالهم بنتائج امتحانات الثانوية العامة، وما يتبعها من أعباء مع تقدّم أبنائهم للدراسة في الجامعات الحكومية والخاصة. لم يكن لهذا كله، وغيره كثير، أن يعمّي على الغضب الواسع لدى عموم الأردنيين، في مختلف الأوساط الرسمية والشعبية، على جريمة الإرهاب الإسرائيلية الجديدة، والتي قضى فيها الطفل الفلسطيني، علي دوابشة حرقاً، والتي دانتها الحكومة ومجلس النواب والأحزاب وفاعليات شعبية عريضة، كما حفلت الصحافة الأردنية بغضب شديد من الجريمة التي اعتبر كاتب ووزير سابق أن القاتل فيها هو بنيامين نتنياهو. وتجدّدت المطالبات بطرد السفير الإسرائيلي في عمّان، وسحب السفير الأردني من تل أبيب، وثمّة من طالب بإلغاء معاهدة السلام، وهذه من أمور ليس في وسع الحكومة أن تأخذ وتعطي معها، فهي تكتفي بترك المنابر الإعلامية والنيابية والأهلية، يُقال فيها ما يشاء بعض الناس، من دون أن يتجاوزوا ذلك إلى خطوطٍ ليس مسموحاً بها، ولا مأذوناً بتجاوزها.
ونوبة الغضب الأردنية هذه، في موسم صيفٍ حار يبعث على التوتر في المزاج العام، مألوفة ومسبوقة بمثيلاتٍ كثيرات، إبّان جرائم جيش الاحتلال في غضون الانتفاضة في العقد الماضي، واضطر صانع القرار في أتونها إلى استدعاء السفير الأردني من تل أبيب، قبل أن يعود لاحقاً. كما أن نوبة غضب غير منسية صارت عند إقدام جندي إسرائيلي على قتل القاضي الأردني رائد زعيتر، وسارت مظاهرات شعبية ساخطة على تلك الجريمة، ووجدت الحكومة، في حينه، نفسَها، في وضع محرج، وإن شدّدت في نبرتها الغاضبة. وثمّة الغضبة التي اشتعلت عند حرق الطفل محمد أبو خضير، ثم مسيرات التنديد في أثناء الحرب العدوانية على أهل قطاع غزة، ونهض أهل الخير في تسيير قوافل الإعانة والإغاثة والإسعاف لأهالي القطاع.
ليس الأردن في حال يمكّنه من خرق المألوف في سلوكه السياسي تجاه إسرائيل، وإنْ في البال أن غضبة الراحل، الملك الحسين، من إقدام المخابرات الإسرائيلية، على محاولة اغتيال خالد مشعل في عمّان، في يوليو/تموز 1997، وصلت إلى وعيد بإلغاء معاهدة وادي عربة، إذا لم يوفّر الإسرائيليون الترياق الشافي للمواطن الأردني مشعل. وكان أداء الملك وفريقه في تلك الواقعة دالاً على أن للمهادنة مع التمادي الإسرائيلي حدودها. وليس سراً أن القيادة الأردنية لا تستمزج وجود نتنياهو رئيس حكومة في إسرائيل، ولا أمثاله من تنويعات اليمين الإرهابي، وأن عمّان طالما راهنت على "اعتدال" حزب العمل ورجالاته، وهي التي أقامت صلات سرية مع قياداته سنوات، واستمرت لاحقاً في استثمار علاقاتها مع هؤلاء، لعلها تنفع في إشاعة أجواء سلام في المنطقة، وفي الدفع بعملية التسوية التي لم تكن غير طبخ حصى، وتبيّن أن المساحة بين "العمل" و"الليكود"، وتنويعات هذا وذاك، غير منظورة بالقدر الكافي، ولا مدعاة للتذكير بالمعلوم من جرائم إسحق رابين وشيمون بيريز وعمير بيرتس في فلسطين ولبنان.
ستمرّ الغضبة الأردنية الراهنة من جريمة حرق الطفل دوابشة، في دوما الفلسطينية، كما كل الغضبات من جرائم حرق وتنكيل وقتل واعتداءات إسرائيلية بلا عدد سبقتها. وسيبيح أهل القرار للأردنيين كل منافذ تصريف انفعالاتهم من جرائم لن يتورّع المحتلون عن اقترافها. والمؤكد أن إسرائيل، وعصاباتها الحاكمة في تل أبيب، تعرف أن صنّاع القرار في العواصم العربية حكيمون، ويعدّون للمليون قبل أي أن يستقروا على أي قرار في شأن جلل، من قبيل إظهار العين الحمراء أمامها. افتتاحيات الجرائد، ومطالبة "المجتمع الدولي بتحمل مسؤولياته" كافيتان، وإن زيد عليهما أخيراً، دعوة محكمة الجنايات الدولية لمقاضاة المجرمين الإسرائيليين، من دون أي استعداد جدي لأمر مثل هذا، جديد ومثير، يكسر رتابة الرطانات المعهودة إياها.