كل هذه المراسم الدينية في تنصيب ملك بريطانيا
تُوِّجَ تشارلز الثالث ملكاً لبريطانيا، في احتفالٍ مهيبٍ فخيمٍ قشيبٍ، هو الأكبر الذي تشهده البلاد منذ سبعة عقود، تضمّن مراسمَ وتقاليدَ تاريخيّة عتيقة أصيلة، تعود جذورها إلى ألف عام، وقد جرت تلك المراسم التي غلب عليها الطابع الديني الإنغليكاني في كنيسة وستمنستر بلندن بحضور حوالي 2300 مدعوّ، وقد شاهدها الملايين عبر الشاشات في أرجاء العالم الذين شعروا بأنهم يشاهدون وثائقيّاً اشتمل على مشاهد تعود إلى القرون الوسطى. فقد وقف رئيس أساقفة كانتربري، جاستن ويلبي، إلى جانب كرسي التتويج، أو كرسي القدّيس إدوارد الذي تُوِّجَ عليه 26 ملكاً، وعمره 700 عام، والتفت إلى جانب الكنسية مُعلناً أن تشارلز هو "الملك بلا ريب"، ثمّ وضع رئيس الأساقفة تاج القدّيس إدوارد المصنوع قبل 360 عاماً على رأس الملك تشارلز الثالث، وتاج الملكة ماري على رأس قرينته كاميلّا. وقبل ذلك بوقتٍ قصير، أقسم الملك على الإنجيل على خدمة رعاياه وحماية كنيسة إنكلترا، التي هو رئيسها الأعلى، فيما سُمٍعَت هتافات "ليحفظ الله الملك" داخل الكنيسة وخارجها.
وبعد انتهاء مراسم التتويج، غادر الملك تشارلز وقرينته الكنيسة إلى قصر باكينغهام، على متن العَربة المَلكيّة الذهبيّة التي يعود تاريخها إلى 260 عاماً، وتجرّها ثمانية خيول على طريق موكب التتويج الذي يمتدّ إلى مسافة 2.26 كيلومتر، بمشاركة نحو خمسة آلاف جندي و60 طائرة عسكريّة من طراز "سبتيفاير" التي شاركت في الحرب العالميّة الثانية، بالإضافة إلى عدد من جنود 30 دولة من دول الكومنولث، مع اصطفاف الحشود على طريق "ذا مال" المقابل للقصر، وقد نُصبت أمامه مقاعد مُخصّصة للضيوف المدعوين، بمن فيهم قدامى المحاربين وعاملون في خدمات الرعاية الصحيّة الوطنيّة ورعاية المُسنّين وذوي الإعاقات.
حملت مراسم التتويج مشاهدَ عديدة جديرة بالتوقّف والتأمّل، كونها تعكس تقاليدَ عريقة راسخة للملكية البريطانيّة، واحتراماً بالغاً لمرجعيّتها الحضاريّة من جهة، كما تعكس اعتزازاً بالتاريخ الاستعماري البريطاني من دون أدنى خجلٍ من جهةٍ أخرى.
النُسخة البريطانيّة من العلمانيّة معتدلة إلى حدّ كبير، إذا ما قُورنت بنظيرتها الفرنسيّة
ستعلق المشهد الأوّل بمكان التتويج في كنسية وستمنستر آبي، التاريخيّة العريقة التي شهدت تتويج ملوك بريطانيا وملكاتها منذ عام 1066، عندما هزم ويليام الفاتح الملك هارولد الثاني في موقعة هاستنجز، وتُوِّجَ ملكاً في الكاتدرائيّة. ومنذ ذلك الحين أُقِيمَ 38 حفل تتويج ملكي في وستمنستر.
اللافت أن مراسم التتويج في الكنيسة كانت دينيّة صرفة، تعود إلى بضعة قرون، فالذي يقوم بعملية تنصيب الملك هو رئيس أساقفة كانتربري، مع طقوسٍ كنسيّة تاريخيّة لا يجوز الخروج عليها، فالملك يُقسم على الإنجيل ويتعهّد بحماية كنيسة إنكلترا واحترام تعاليمها، ويُتبع هذا بطقوسٍ أخرى، مثل طقس المناولة، والمسح بالزّيت المُقدّس. وكلّ تلك الطقوس والمراسم التاريخيّة العتيقة التي تمثّل عَبق الأصالة، تحرص الثقافة البريطانيّة خصوصا والأوروبيّة عموما على الاعتناء الشديد بها، كونها تُبرز العمق الحضاري البريطاني، مقارنة بأميركا التي تفتقد هذا الجانب في تاريخها، كما أنها تحظى بتوافقٍ داخل المجتمع البريطاني، وهي جزء من الهويّة التاريخيّة البريطانيّة، أو المرجعيّة الحضاريّة التي تحظى باحترام الجميع، ولم يرَ أحدُهم أنها تنال من علمانيّة الدولة، أو تُضفي قدراً من التقديس على السلطة الملكيّة، ومسلكها السياسي أو نشاطها الإنساني.
تتعيّن الإشارة هنا إلى أن النُسخة البريطانيّة من العلمانيّة معتدلة إلى حدّ كبير، إذا ما قُورنت بنظيرتها الفرنسيّة، لأسباب تتعلّق باختلاف السياق التاريخي، ومدى علاقة الكنيسة بالسلطة في الحالتيْن، فالأولى تسمح بحضور الدين في المجال العام بضوابط قانونيّة محدّدة يقف عندها الدين، وتضع حدوداً فاصلة بين الديني والسياسي، على النقيض من الثانية ذات الطابع اللائكي الشرس، نظراً إلى تاريخ الكنيسة في الحقبة الملكيّة في فرنسا، وتحالفها مع الإقطاع، ونزعتها التسلّطيّة القهريّة، والمواجهة الدمويّة التي وقعت معها، والتي لم يعرفها التاريخ البريطاني. فاللائكيّة الفرنسية لا تقف عند تحرير السياسي من هيمنة الكنيسة، بل تسعى إلى ملاحقة الدين في المجال العام بصورة حثيثة، محمّلة بنزعة صفريّة، وتمنعه من الظهور بأي صورةٍ من الصور، ليصل الأمر، في المحصّلة النهائية، إلى إحلال القالب اللائكي الصلب محلّ الدين بصورة قسريّة، عبر حضورٍ بالغ الصرامة ثقيل الوطأة للدولة، لتصير هي حارسة القيم اللائكيّة، وتصبح بمثابة الخصم والحكم في آنٍ معاً، فهي التي تخطّ الحدود التي يقف عندها الدين، عبر هيمنتها الكاملة على الآليات التعليميّة والتثقيفيّة، وهي التي تطبّق القيم اللائكيّة بكلّ صرامة على مواطنيها، ناشبةً أنيابها ومخالبها في المجال الخاصّ للأفراد، وترجع جذور تلك النزعة إلى جان جاك روسّو، الذي اعتبر الدولة بمثابة الإطار المُعبِّر والمُجسّد للإرادة الكليّة للمواطنين، كما أنّها قوّة ناظمة ومتعالية عن مجموع المصالح الجزئيّة والفرديّة، لتصير الدولة بمثابة المُعبِّر عن روح الشعب.
أهل التنوير في العالم العربي احتذوا النزعة اللائكيّة الفرنسيّة في خطابهم التنويري، بل إنهم تفوّقوا عليها أحياناً، بتطاولهم المتكرّر على الأزهر وشيخه
ومن هنا يمكن أن نعرف سبب التسامح البريطاني، لحضور المظاهر الدينيّة في المجال العام، مثل السماح بارتداء الحجاب في الأماكن العامة والدواوين الحكوميّة، مقارنة بالرفض الفرنسي اللائكي التامّ لظهور الحجاب في المجال العام، لأن هذا يمثّل تهديداً لقيم الجمهوريّة الفرنسيّة التي تسعى إلى مطاردة أيّ مظهر ديني في المجال العام.
المفارقة الطريفة أن التنويريّين إيّاهم ابتعلوا ألسنتهم والتزموا الصمت، إزاء مشهد التتويج البريطاني، فما نبس أحدهم ببنت شفة، ولم يصدّع رؤوسنا بالحديث الممرور المكرور عن "الظلاميّة"، وتلك المراسم القديمة المتخلّفة التي تقبع في غياهب التاريخ (!). والأطرف أن أهل التنوير في العالم العربي احتذوا النزعة اللائكيّة الفرنسيّة في خطابهم التنويري، بل إنهم تفوّقوا عليها أحياناً، بتطاولهم المتكرّر على الأزهر وشيخه، إذا ما تحدّث في أمر شرعي، فتنويرهم أعورُ، لا يرى إلا بعينٍ واحدةٍ، تسعى إلى ملاحقة الدين في المجال العام، بينما هو متصالحٌ إلى أبعد مدى مع الاستبداد.