كيف نستثمر تقارير حقوق الإنسان لصالحنا؟
هل هنالك سياساتٌ خاصة للتعامل مع التقارير الحقوقية التي تُصدرها المنظمات الدولية، ونعني هنا دول العالم الثالث؟ هل نعتبرها معاداةً للنظم والدول الحاكمة إذا كانت تنتقد هذه الأخيرة على المستوى الحقوقي، وهل يمكننا أن نتعامل معها بمنطقين: نقبلها حين تثمّن بعض الإصلاحات ونرفضها حين تدين الخروقات؟ ألا يمكن أن تقابَل هذه التقارير بصيغة غير التشنّج ورد الفعل، وبغير تهم المؤامرة والاستهداف المقصود؟
لا تزال مسألة التعامل مع التقارير الحقوقية الدولية من أكثر المسائل إحراجا بالنسبة لأنظمة دول العالم الثالث، ورغم الثورات التي شهدتها المنطقة، ورغم ما أسقطته من نظم استبدادية، لا نزال نتعامل مع هذه التقارير بعقلية ما قبل الثورات، فأين يكمن الخلل؟
صرّح قرار البرلمان الأوروبي الذي يدين بالإجماع للمغرب بخصوص وضعية حقوق الإنسان (يناير/ كانون الثاني 2023)، بعدم احترام المغرب شروط المحاكمة العادلة للصحافيين، وعدم احترام حرية التعبير، ودعاه إلى إطلاق الصحافيين المعتقلين، وقد أشار إلى كلٍّ منهم باسمه (عمر الراضي، توفيق بوعشرين، سليمان الريسوني). ونذكر كيف سارت جل الصحف المغربية والقنوات الإعلامية والتحليلات الإخبارية باتجاه النرفزة من هذا القرار، واتهامه بالتغريض وعدم تصوير الحقائق كما هي، وغيرها من اتهامات جعلت التصريح بغير ذلك نوعا من المواجهة والخيانة لتيار عريض لم تعد تتمايز فيه الآراء، بل ينسج لغة نغم واحدة هي السائدة. وهي أول دليل على صدقية نتائج هذه التقارير، حيث لم يعد الجسم الصحافي رمزا لتنوّع وجهات النظر، وإنما قناة للتلميع بالطريقة التقليدية التي اعتقد الكثيرون أن المغرب قد قطع معها في العهد الجديد.
الدبلوماسية الحقيقية هي التي تستثمر نقط ضعفها نحو مزيدٍ من التجويد للحياة المواطنة داخلها، والتي لا تخدم، في النهاية، إلا تكامل مسارات التنمية والتقدّم
ولعله لو لقي هذا القرار آذانا سياسية تصغي لأبعاده المستقبلية، لاستثمر لصالح المغرب، كنقطة يقظة نحو مسألة تناقص الحرية عن سالف عهدها، وتدارك ما سيُلحقه المزيد من إهمالها من أضرار بصورة المغرب في العالم، فالدبلوماسية الحقيقية هي التي تستثمر نقط ضعفها نحو مزيدٍ من التجويد للحياة المواطنة داخلها، والتي لا تخدم، في النهاية، إلا تكامل مسارات التنمية والتقدّم، ونعلم جيدا حجم المكاسب التي يمكن تحقيقها ضمن مؤشّرات المنظمات الدولية حال احترام الحقوق والحريات العامة. هذا، من دون أن نغفل جودة الحكامة التي يقدّمها اتساع رقعة حرية الرأي والتعبير، عبر التحاليل والمقالات والتقارير والدراسات التي تعد رصيدا مهما للتفكير في الشأن الداخلي، ومعبّرا قويا عن مستوى النمو والتحضر والنضج السياسي.
صدر، أخيرا، تقرير الخارجية الأميركية السنوي حول وضع حقوق الإنسان في العالم 2022، ينتقد هو الآخر تردّي واقع حقوق الإنسان في المغرب، والذي لم تتفاعل معه هذه المرّة وسائل الإعلام المغربية والصحافيون والمحللون بالشكل الكافي، بل قوبل بنوع من التغاضي، ونوع من تقبّل الأمر الواقع المميز للديمقراطية الأميركية. ففي تغطية وكالة المغرب العربي للأنباء مواد هذا التقرير (20 مارس/ آذار 2023)، نجدها تغطية عابرة لم تركّز إلا فيما تعلق بالصحراء المغربية، بعيدا عن كل ما له علاقة بالحريات والحقوق عموما. وفي تصريح آخر للمندوب العام لإدارة السجون وإعادة الإدماج، محمد صالح التامك، المنشور في صحيفة هسبريس الإلكترونية واسعة الانتشار (22 مارس/ آذار 2023)، يقول إن التقرير لا يبشّر بخير، وضمن تصريحه عبارات عديدة تفيد بأن في التقرير مغالطات كثيرة. ولعل التغطية الوحيدة التي حاولت التعامل مع التقرير بنوع من التحليل والنقاش والاستماع لصوت الخبراء كانت لصحيفة "الأيام 24" الإلكترونية (21 مارس/ آذار 2023)، والتي أوردت في تغطيتها مواد التقرير تعليقا للمحلل السياسي محمد شقير بضرورة اغتنام هذا الأخير فرصةً للإصلاح، وهدية ينبغي الاستفادة منها.
خلاصات تقارير حقوق الإنسان ستفيد في النظر إلى أنفسنا عبر مرآة الغير، وعلى الأقل التأمل في الحقيقة التي يرانا بها العالم
وإذا بحثنا عن مزيدٍ من التحاليل، لن نجد شيئا يُذكر بعكس التعامل الذي قوبل به القرار الأوروبي، وخلف مواد إعلامية وصحافية كثيرة، وهي مسألة واضحة جعلت أغلب روّاد مواقع التواصل الاجتماعي يعلقون عليها بنوعٍ من السخرية من الصحافة المغربية. ولعل ذلك ما يردّ إلى نقطة الأسئلة التي افتتحت بها المقالة، وهي سياسات التعامل مع هذه التقارير، والتي لا بد لها أن تساير تطورات واقع السياسة العالمي اليوم، فنحن قد عايشنا لحظة الثورات، وما حملته من تغيير في العقليات والتصوّرات والاختيارات السياسية، ثم إننا نواجه تحوّلات جيواستراتيجية لا يمكن الاستمرار بعدم أخذها على محمل الجد المطلوب، فمثل هذه التقارير مادّة حيوية لجهاتٍ عديدة يمكن أن تفيد منها الدولة، باعتبارها مؤسّسات تستفيد من أموال مانحي الضرائب، وفي مقدمتها المؤسسات البحثية، ومراكز البحث المستقلة أو التابعة للمؤسّسات الرسمية، والتي يمكنها تحليل جميع أبعاد هذه التقارير، ودراستها بالشكل الأكاديمي المطلوب، ثم لدى المغرب الخبراء والمحللون السياسيون والصحافيون والأقلام النوعية في البلاد، ولا يمكن لعين المراقب أن تخطئ قيمة تعاملٍ كهذا وما قد يجنيه من وجهات نظر عميقة ومتنوعة، تصبّ كلها، في النهاية، باتجاه جودة القرار السياسي الذي يمكن للسياسيين التداول بشأنه والتفكير في اتباعه.
لم يعد هنالك متسع من الزمن لمزيد من المماطلة أو محاكاة ممارسات زمن ولى، هذا لمن أراد العبور إلى جسر الدول القادرة على الاستمرار والنجاة في عالمنا اليوم، ومن أهم الأشياء التي ينبغي استثمارها في ذلك خلاصات هذه التقارير، باعتبارها ستشكل علاقة جديدة بهذه المنظمات ودليلا على حسن نية، وصورة عن نضج أصحاب القرار في أي بلد وجّهت إليه، ثم إنها خلاصاتٌ ستفيد في النظر إلى أنفسنا عبر مرآة الغير، وعلى الأقل التأمل في الحقيقة التي يرانا بها العالم.