لا تنظر إلى الأعلى
يمكن اعتبار فيلم "لا تنظر إلى الأعلى" من أكثر الأفلام الباعثة على الحيرة وإثارة الجدل. منذ عرضه على منصة "نتفليكس"، انقسم الجمهور بين رافض غير معجب بالمطلق، ينعته بالسخيف والسطحي، ومتحمّس معجب ممن وجده غاية في الجمال والبراعة، نصاً وتمثيلاً وإخراجاً. والحق أنّه فيلم مختلف ومتميز، سواء لناحية القصة المثيرة التي تصنّف ضمن الخيال العلمي، أو لناحية اختيار نخبة الممثلين الكبار، أصحاب التجارب المكرسة في عالم الدراما، مثل ميريل ستريب وليوناردو ديكابريو وكيت بلانشت وجنيفر لورانس، وغيرهم من الحائزين على جوائز أوسكار.
قدّم كاتب السيناريو والمخرج، آدم مكاي، مزيجاً مدهشاً من الثيمات بالغة الحساسية، لعلّ أبرزها طرح سؤال الوجود والتأمل في معنى الحياة وجدواها ورصد سلوكيات الأفراد في حضور شبح الموت والدمار، نتيجة اقتراب مذنّب ضخم بسرعة هائلة من الأرض، متوعداً بالموت الجماعي للبشرية. لا يتعدّى الزمن الدرامي للعمل الستة أشهر منذ اكتشاف فريق من علماء الفلك اقتراب المذنب، وحتى اصطدامه بالأرض وحلول الكارثة وفناء البشر في لحظةٍ مرعبة.
ينطوي الفيلم على إدانة كبرى للنظام السياسي في الولايات المتحدة، ممثلاً بشخصية رئيستها غير المعنية بالصالح العام كما تزعم لناخبيها. تلعب دورها القديرة ميريل ستريب التي قدّمت أداء مقنعاً لشخصيةٍ سلطويةٍ بشكل ساخر تهكمي، يفضح نفاق النظام السياسي وانتهازيته، وهو غير المكترث إلّا بإحكام سيطرته وتأكيد نفوذه، كما يكشف النص الدور المتواطئ الذي تلعبه وسائل الإعلام في تضليل الجمهور، من خلال التركيز على توافه الأمور وتجاهل القضايا الكبرى. ويسلط الفيلم على الدور الكبير الذي تلعبه وسائل التواصل في حياتنا المعاصرة، ومدى تحكّمها في توجيه الرأي العام سهل الانقياد، المنشغل بالقضايا السخيفة. ويدين، بلا مواربة، العلاقة المشبوهة بين السلطة ورأس المال، ممثلاً بالمدير التنفيذي لشركة اتصالات عملاقة، تسعى إلى تضخيم ثرواتها على حساب البسطاء. وفي ظل حقيقة الموت الماثلة، اختلفت ردود الأفعال، بحسب تركيبة الشخصيات، كان أكثرها وعياً وإدراكاً لحجم الكارثة فئة العلماء الذين بذلوا أقصى جهد ممكن، لتجنيب الأرض هذا المصير المظلم، لكنّهم سرعان ما هزموا أمام سطوة القرار السياسي، المتحالف مع رأس المال الجشع الذي وجد في المذنّب فرصة لتحقيق مزيد من الثروة، من خلال محاولة استغلال المواد الثمينة المتوفرة فيه، ولو على حساب حياة مليارات من البشر.
لم يخلُ الفيلم من إضاءة على الخراب الذي يعتري العلاقات الإنسانية المتشابكة المعقدة في زمننا الراهن. ويظل المشهد الأخير تحفة فنية، مثيرة للدهشة، حين تلتقي أسرة العالِم المخذول، ويلعب دوره المبدع ليوناردو ديكابريو، وأصدقاؤهم في عشاء أخير، يتبادلون الأحاديث عن تفاصيل يومية بسيطة، فيما الجدران حولهم تتصدّع وتهتز والطاولة تهتز والأواني تتساقط وهم ماضون في حواراتهم البسيطة في تعبير بليغ موجع عن حالة استسلام مطلقة للمصير. ويذكّر هذا بالمشهد البديع لفرقة العازفين في فيلم "تايتنك"، حين أصرّوا على الاستمرار في العزف مواجهين الموت الحتمي حين نفد الأمل في النجاة، وتجلت حالة التضامن الإنساني حين اشترك الجميع على المأدبة المتداعية (معظمهم علمانيون) في صلاةٍ إلى الرب كانت ملاذهم الأخير. ويضع الفيلم المتلقي في حالة ترقب تحبس الأنفاس، وهو يتوق إلى خلاصٍ ما، رافضاً فكرة الفناء، لكنّ كاتب النص لم يشأ تضليلنا بوهم نجاة كاذبٍ، بل وضع مصير الموت كنهاية حتمية واحدة.
"لا تنظر إلى الأعلى" فيلم ساحر مدهش بكلّ المقاييس، اعتمد الكوميديا السوداء في طرح قصة مرعبة، وهو عمل درامي يجمع بين البساطة والعمق، ويحرض على التأمل. وقد أبدع طاقم العمل، سيما ميريل ستريب وليوناردو ديكابريو، في أداء أدوارهم الصعبة والمركّبة. كما نجح المخرج في إيصال فكرته الرهيبة، من دون اللجوء إلى بث صور الموت، بل الإيحاء بها بشكل رشيق، ما شكّل أثراً أقوى في نفس المتلقي.
يستحقّ الفيلم المشاهدة أكثر من مرّة، للوقوف على جمالياته الكثيرة، وهو بمثابة قصيدة طويلة في مناجاة الحياة وهجاء السلطة السياسية المستهترة التي تحول دونها.