لا خاسر في الصداقة أبداً
أن تعرض من تحبّ لاختبارٍ مفتعلٍ تقيس من خلاله مدى حبّه وإخلاصه لك لا ينم عن عدم ثقة بالنفس وحسب، بل أيضا عن قسوة غير مبرّرة تجاه نفسك وتجاهه هو.
لماذا نحاول أن نختبر أحبابنا بلا مبرّر؟ لماذا نريد أن نتأكّد من محبّتهم لنا، وكأن محبّتنا لهم وحدَها لا تكفي؟ أو أن قلوبنا لم تعد دليلاً كافياً يقودنا إلى منطقة اليقين العاطفي؟ ولماذا نعيّش أنفسنا في دوائر لا تنتهي من الشك، تدور حولنا إلى ما لا نهاية، وفي كل دورة تكتمل يكتمل حولنا طوقٌ من الشك تجاه الآخرين، بل وتجاه أنفسنا أيضا؟
قبل أيام، أرسلت إليّ سيدة تتابعني منذ سنوات على حسابي في "سناب شات" رسالة طويلة، حكت لي فيها عن تفاصيل دقيقة لعلاقاتها مع صديقاتها سنوات. ثم قالت إنها تريد اختبارا سريعا وعمليا يمكن أن تعرف منه مدى وفاء تلك الصديقات لها. لماذا؟ لأنها، كما قالت، تشكّ في بعضهن، وأنها تريد أن تقلّل من عددهن من خلال اختبار عادل ودقيق، حتى لا تظلم أيّ واحدةٍ منهن. لكن لماذا أنا؟ لماذا قصدتني أنا بالذات، وهي تطلب هذا الطلب؟ لماذا توسّمت فيّ قدرة على ابتكار مثل هذه الاختبارات التي يعرف المرء من نتائجها مدى إخلاص أصدقائه له؟
تعلم أنني لست طبيبة نفسية على سبيل المثال، ولا في أيّ مجال من هذا التخصّص، ولكنها سألتني، لأنني أتحدّث وأكتب دائما عن صداقاتي بحبٍّ وتقدير، وأنها سمعتني، أخيراً، في مقالة تلفزيونية أجريت معي وأنا أتحدّث عن فكرة الصداقة بامتنان شديد. ولذلك أرادت أن تعرف سرّ نجاح صداقاتي التي استمر بعضها أكثر من ثلاثة عقود، وربما أكثر.
هذا صحيح.. أنا أحب فكرة الصداقة وأكاد أقدّسها. وأشكر الله سبحانه وتعالى أنه رزقني بصداقات تاريخية نادرة في جمالها، لكنني لا أتذكّر أنني عرضت صداقاتي لأي نوع من الاختبارات الناتجة عن الشكوك. بدلا من ذلك، اجتهدتُ كثيراً، ومنذ أيام الجامعة، لحماية صداقاتي بشتّى الطرق والوسائل... وساعدني في نجاح ذلك أن هؤلاء الأصدقاء كانوا دائما يستحقّون الحب في أعلى مستوياته، وأنهم نبلاء نادرون تجاهي وتجاه الآخرين. وغالباً كانوا يعاملونني بأفضل وأكرم مما أعاملهم به، ولعلّ في ذلك كله يكمن واحدٌ من معاني الفضل الإلهي الذي حظيت به على هذا الصعيد.
قلت للمتابعة ذلك، لكنها ذكّرتني باختبار اسمه "اختبار النيّات"، سبق أن تحدّثتُ وكتبت عنه مرّاتٍ، وأن هذا الاختبار هو ما شجّعها على طلبها مني أن أزوّدها باختبارٍ يمكن أن نسميه "اختبار الصداقات"! ولكن الصداقة، يا عزيزتي، تتجاوز ذلك كله. بل وتتجاوز فكرة الحب أيضاً، وهو ما يجعلها في المرتبة الأسمى في سلم العلاقات الإنسانية بين البشر، باستثناء علاقاتنا بآبنائنا وأمهاتنا وأبنائنا.
صحيحٌ أن البشر يتعرّضون دائما لخيبات آمالٍ وخياناتٍ من بعض الأصدقاء، ولكنها الاستثناء في قواعد الصداقة. ولا ينبغي أن نستسلم لنتائج الاستثناءات المؤلمة، ونحن نعيش دائما في فرح القواعد السائدة للصداقة. ... ولستُ في موضع من يحقّ له تقديم النصائح، ولا أحبّ تلك المهمّة في حياتي، إذ أرى أنها من أنواع الوصاية غير المباشرة على الآخر، وإنْ كانت من باب المحبّة وإشاعة الخير بين الناس، ولكنني، مع هذا، أتجاوز ذلك أحياناً، من باب الحديث عن التجارب الشخصية وحسب. ولهذا كتبت للمتابعة الفاضلة أن تحاول التخلّص من فكرة البحث عن اختبار صالح لفحص أحوال الصداقة، والاكتفاء بتجارب الحياة الحقيقية والتي لا بد أنها قادرة على الفرز في الوقت المناسب. علينا، فقط، أن ننتبه جيداً إلى الإشارات الموزّعة على طريق الصداقة، وأن نقرأها بدقة، وأن نصغي لنداءات الضمير الحي، من دون أن نربك عواطفنا بما ينغّص لحظات الاستمتاع بها.
الصداقات جميلة دائما، وما خرجنا في نهايتها خاسرين للوهلة الأولى، وفي كل مرّة نكتشف ما يخدُشها، ليس علينا أن نشعر بالندم أو الأسى على ما فات من بذلٍ في خضمّها، أو أن نلوم أنفسنا، لأننا كنّا الطرف المغفّل فيها... أو أن نكفر بالفكرة كلها. لا خاسر في الصداقة أبداً.