لا شيء يجعلنا نتوقف
يمكن الرد على الخارجية الفرنسية التي طالبت بوقف المقاطعة الاقتصادية للمنتجات الفرنسية، بكلمات مختصرة: "لا شيء يجعلنا نتوقف". وهنا يجوز السؤال: كيف يطلب من ردة الفعل أن تتوقف، في حين أن الفعل قائم، فذلك مما لا يستساغ، دع عنك أنه غير مقبول منطقياً ولا عقلياً.
المقاطعة الاقتصادية سلاح استعمل، منذ القدم، في تحقيق مصلحة عامة أو خاصة. وقد تشابهت المقاطعة الشعبية وشبه الرسمية للمنتجات الدنماركية مع الحالة الفرنسية اليوم، فكلتاهما متعلقتان برسوم مسيئة للنبي المصطفى صلى الله عليه وسلم، حيث بدأت المقاطعة للمنتجات الدنماركية في أوائل عام 2006، وكان لها أثر كبير على تلك المنتجات، وبلغت خسائرها وفق الإحصائيات آنذاك ملايين الدولارات، بل وتراجعت صادراتها بنسب عالية بحسب إحصائيات رسمية، لتأخذ الدنمارك بذلك درسا اقتصاديا لم يكن في حسبانها.
واضح أن فرنسا لم تع الدرس بعد جيداً، وإن كانت في الطريق إلى ذلك. وإذا كانت خارجيتها قد طالبت بوقف "الدعوات المقاطعة العبثية"، بحسب وصفها، مشددة على ضرورة "وقفها فوراً"، غير أنها لم تتحدّث عن أسباب هذه المقاطعة، وكأن المقاطعة حدث منفصل عما سبقه، في حين أن ردة الفعل جاءت مبنية على الفعل المسيء أولاً ضد النبي محمد عليه السلام.
كما أن فرنسا لم تفهم الحالة الشعبوية الإسلامية، وإنْ حاولت الدخول فيها بطريقة أو أخرى، ويتجلى ذلك بوضوح عند تصريحها بأن هذه المقاطعة "تقف وراءها أقلية راديكالية"، وهذا غير صحيح، ويدل على حالةٍ من التخبط وعدم الفهم، فالراديكالية لن تكون شعبوية، باعتبارها مصطلحا يطلق على الجماعات المتطرّفة والمتشدّدة في مبادئها، ولا يمكن إطلاقها على هذه الواقعة الشعبوية مطلقاً. هذا أولاً، وإن وجدت فلن يكون لها هذا التأثير الواسع، لأن هذه المقاطعة نابعة عن فعل فردي بامتياز، وإن كانت دولٌ تتبنى المقاطعة، فليس من باب التشدّد في أغلب الأحيان، وإنما من باب رد الاعتبار المنبثق من حالة شعبوية، تتبناها مؤسسات رسمية وليس العكس، هذا ثانياً.
حاولت فرنسا تشتيت الموقف الذي اتخذ ضدها في المقاطعة بوصفه بـ"الراديكالية"، والتي لن تُقبل في فرنسا نفسها، فما بالك في العالم الغربي، ومن ثم العربي أو الإسلامي
الاقتصاد في فرنسا، كما هو في أوروبا، تؤثر فيه هذه الحملات بقوة كبيرة، باعتباره رأسماليا مكونا من مجموعات اقتصادية يشكلها أفراد ومؤسسات. وبالتالي، فإن الضرر الذي سيقع عليها سينتج ضغطا سياسيا على الإدارة السياسية في البلاد، تجعلها، في آخر المطاف، ترضخ لهذه الضغوط، وتغير من سياستها تجاه هذه الأزمة أو تلك، التي تسببت فيها لتلك المؤسسات الاقتصادية العامة في البلاد، غير أن هذا لن يكون واقعياً إلا في حالة "ديمومة المقاطعة"، لأن ثمار المقاطعة والضغظ لن تقطف إلا بعد فترة لن تكون وجيزة. وخير مثال على ذلك الخسائر التي لحقت بالمنتجات الأميركية في سنة 2002 عند مقاطعتها آنذاك، حيث تراوحت الخسائر ما بين 15% إلى 20% من إجمالي الواردت التي كانت موجهة إلى العالم العربي وشرق المتوسط، وهذا يعتبر تأثيرا كبيرا في اقتصادها الموجه، كانت له تداعيات سياسية في وقتها.
كانت بداية الدعوات التي انطلقت من العالمين الإسلامي والعربي إلى مقاطعة المنتجات الفرنسية في مواقع التواصل الاجتماعي، لتكون واقعاً على الأرض، توثقها، أيضا، كاميرات رواد تلك المواقع، الأمر الذي جعل حدّتها تقوى على كل الأصعدة، الشعبية والرسمية. ولعل أقوى تصعيد على صعيد الدول التي نهجت هذا المنهج تركيا التي دعت مواطنيها صراحة إلى المقاطعة.
في المقابل، لا يمكن قراءة هذه المقاطعة بعيداً عن سياسات دول أوروبية تتخذ هذا النهج في كثير من تعاملاتها، سواء مع بعضها، أو مع دولٍ تناصبها العداء. ومن هنا، كانت المعاملة بالمثل في نهج تلك السياسة المتبعة عند الغرب نفسه. وبالتالي، من هذا المدخل والفهم، حاولت فرنسا تشتيت الموقف الذي اتخذ ضدها في المقاطعة بوصفه بـ"الراديكالية"، والتي لن تُقبل في فرنسا نفسها، فما بالك في العالم الغربي، ومن ثم العربي أو الإسلامي.
تأثير المقاطعة إذا استمرت ستكون كبيرة، ولن تقارن بما كان قبلها من المقاطعات في ظل السياسة الفرنسية المتبعة اليوم
كما لا يخفى على أحد تأثير سلاح المال على الدول، خصوصا التي تتغذّى وتسترزق على قوت الدول الصغرى والضعيفة، متخذة النهج الاستعماري في ذلك. ولفرنسا تاريخ حافل في هذا الاتجاه، وبالتالي فإن تأثير هذه المقاطعة إذا استمرّت ستكون كبيرة، ولن تقارن بما كان قبلها من المقاطعات في ظل السياسة الفرنسية المتبعة اليوم، لسبب واحد، أن الاقتصاد الفرنسي لن يضيق هذا التأثير عليه فترة كبيرة، الأمر الذي يحتم عليه التوجه إلى إيجاد واقع سياسي جديد، يغير المشهد الداخلي، ومن ثم الخارجي، والأمثلة كثيرة على ذلك.
عموماً، التحرك الشعبي في إيجاد واقع جديد تجاه قضايا معينة حتماً سيجعله واقعاً، وإن خالف فيه التوجهات الرسمية للدولة، خصوصا التي تحمل معاني عظيمة في النفس، تحرّك المشاعر نحو النصرة، ورد الاعتبار.