25 اغسطس 2024
لا للمستبد العادل
أهل بلدنا لا يحبون الفلسفة والتنظير. إذا قرأوا مقالةً فيها تحليل وتفنيد ولغة منمقة، سرعان ما يقولون عن الكاتب إنه يتفلسف. وأحياناً يستخدمون صيغةً مشحونة بالسخرية، فيقولون: "بَلَّشْ يتفذلك". من هنا تأتي خشية كاتب هذه الأسطر من الخوض في موضوعٍ تفوح منه رائحة الفلسفة، كالتعقيب على قول المفكر جمال الدين الأفغاني (1838- 1897) إن دول الشرق تحتاج إلى حاكم مستبد عادل. هذه الخشية تدفعني إلى استخدام لغة بسيطة، قادرة على حَمْل الأفكار وإيصالها إلى القراء بسلاسة؛ فأقول واللهِ لو كان الأستاذ الأفغاني على قيد الحياة لأرسلتُ إليه رسالة عبر "واتس أب"، واستحلفتُه بالله على أنه كيف يكون الواحد مستبداً وعادلاً في الوقت نفسه؟! يبدو أن الأفغاني كان يراقب تاريخ الأمتين، العربية والإسلامية، فلم يمر معه من الحكام غير المستبدين المُجْحِفين، وأراد، لذلك، أن يُلَطِّف الجو، فقال: لا بد للبلاد من مستبد عادل.
ما يُدْهِشُ كاتبَ هذه الأسطر أن يرى طرفي معادلة الاستبداد، أعني المستبد، وقسماً كبيراً من الشعب الغلبان، كليهما، معجبان بهذه المقولة. الأشخاص المحيطون بكل مستبد، من أزلام، وعواينية، وشبيحة، ومنحبّكجية، يقولون إن المستبد الخاص بهم هو "العادل" الذي قصده الأفغاني. ستالين وهتلر وموسوليني وحافظ الأسد وصدام حسين ومعمر القذافي وبشار الأسد وعبد الفتاح السيسي، كلهم، برأي أتباعهم، مستبدون عادلون. صحيح أن الواحد منهم يسرق أموال الخزينة، ويسجن مواطنيه، ويجوّعهم، ويعذبهم، ويقتلهم، ويجبرهم على الهرب إلى بلاد الله الواسعة، ولكنه، الشهادة لله، عادل، يحكم بين الناس بالقسط، حتى الظلم والفقر والقتل والاستغلال فهو يوزّعها على شعبه بالعدل.
الثورة الصناعية التي شهدها الغربُ في القرن التاسع عشر أنهت عصر الإقطاع، وأدّت، في الوقت نفسه، إلى تنحية المؤسسة الدينية عن الحياة السياسية. ولكي تُحَصِّنَ تلك الشعوبُ مجتمعاتِها الناشئةَ حديثاً احتمت بالديمقراطية، ليقينها أن الديمقراطية تحمي ملكية الفرد، وحياته الاجتماعية والسياسية والفكرية.. وكان الركن الأساسي للديمقراطيات هو "التداول السلمي للسلطة". وقد شكل التطور الكبير للمجتمعات الغربية الديمقراطية تحدّياً كبيراً للمجتمعات العربية الإسلامية التي تفتقر الحد الأدنى من المرونة تجاه التطور الحضاري، فوَقَعَ علماؤها المتنورون في مأزقٍ فكري كبير؛ سببُه أنهم لا يجرؤون على طرح فكرة الإبعاد التام للدين عن الحياة العامة، فطرحوا بديلاً عن ذلك فكرة "الإصلاح الديني"، وهم يعرفون أن الاستبداد الشرقي بنيوي، راسخ، لا يمكن معه تَحَوُّلُ المجتمعات إلى الديمقراطية وحقوق الإنسان واحترام المرأة والسماح لها بالدفاع عن حريتها، فراحوا يبحثون عن صيغ ممكنة الوجود، مثل صيغة "المستبد العادل".
كان جمال عبد الناصر النموذج الأكثر ملاءمة للحاكم العربي المستبد العادل، جاء إلى الحكم من عالم العسكر، وأدار بلاده بفرديةٍ مطلقة، واستطاع، بشخصيته الجذّابة وصوته الجهوري، أن يستقطب جمهوراً عريضاً ضمن مصر وخارجها. وكاد، في أثناء ذلك، أن يتحوّل إلى أسطورة. وعلى الرغم من الإخفاق المريع لتجربة عبد الناصر، والهزيمة العسكرية والسياسية والاجتماعية الكبرى التي تحققت في أواخر حياته (1967)، بقيت الشعوب والنخب السياسية متمسكة بفكرة الزعيم القوي، القائد المحبوب التي أنجزها عبد الناصر. بدليل أن الفريق الإعلامي الذي رافق انقلاب حافظ الأسد (1970) بدأ يعزف على نغمة "الخليفة"، خليفة عبد الناصر الذي تعشقه الملايين في البلاد الممتدة من المغرب إلى المشرق، والكلام نفسه قيل عن صدام حسين، وكان أكثر من تمسّك بهذه الفكرة معمّر القذافي الذي قال له الحبيب بورقيبة ذات مرة: دَعك يا معمّر من هذا الكلام، والتفت إلى بلدك الصغير.
الشعوب الشرقية المعجبة بالاستبداد تتلقى خمسين صفعة على غَفْلة. ومهما مر من الزمن، ومهما تطورت الأمم الأخرى، تراهم يفكّرون في إعادة إنتاج الماضي، وإجراء تجارب أجريت في السابق، وثبت فشلها. والله غالب.
الثورة الصناعية التي شهدها الغربُ في القرن التاسع عشر أنهت عصر الإقطاع، وأدّت، في الوقت نفسه، إلى تنحية المؤسسة الدينية عن الحياة السياسية. ولكي تُحَصِّنَ تلك الشعوبُ مجتمعاتِها الناشئةَ حديثاً احتمت بالديمقراطية، ليقينها أن الديمقراطية تحمي ملكية الفرد، وحياته الاجتماعية والسياسية والفكرية.. وكان الركن الأساسي للديمقراطيات هو "التداول السلمي للسلطة". وقد شكل التطور الكبير للمجتمعات الغربية الديمقراطية تحدّياً كبيراً للمجتمعات العربية الإسلامية التي تفتقر الحد الأدنى من المرونة تجاه التطور الحضاري، فوَقَعَ علماؤها المتنورون في مأزقٍ فكري كبير؛ سببُه أنهم لا يجرؤون على طرح فكرة الإبعاد التام للدين عن الحياة العامة، فطرحوا بديلاً عن ذلك فكرة "الإصلاح الديني"، وهم يعرفون أن الاستبداد الشرقي بنيوي، راسخ، لا يمكن معه تَحَوُّلُ المجتمعات إلى الديمقراطية وحقوق الإنسان واحترام المرأة والسماح لها بالدفاع عن حريتها، فراحوا يبحثون عن صيغ ممكنة الوجود، مثل صيغة "المستبد العادل".
كان جمال عبد الناصر النموذج الأكثر ملاءمة للحاكم العربي المستبد العادل، جاء إلى الحكم من عالم العسكر، وأدار بلاده بفرديةٍ مطلقة، واستطاع، بشخصيته الجذّابة وصوته الجهوري، أن يستقطب جمهوراً عريضاً ضمن مصر وخارجها. وكاد، في أثناء ذلك، أن يتحوّل إلى أسطورة. وعلى الرغم من الإخفاق المريع لتجربة عبد الناصر، والهزيمة العسكرية والسياسية والاجتماعية الكبرى التي تحققت في أواخر حياته (1967)، بقيت الشعوب والنخب السياسية متمسكة بفكرة الزعيم القوي، القائد المحبوب التي أنجزها عبد الناصر. بدليل أن الفريق الإعلامي الذي رافق انقلاب حافظ الأسد (1970) بدأ يعزف على نغمة "الخليفة"، خليفة عبد الناصر الذي تعشقه الملايين في البلاد الممتدة من المغرب إلى المشرق، والكلام نفسه قيل عن صدام حسين، وكان أكثر من تمسّك بهذه الفكرة معمّر القذافي الذي قال له الحبيب بورقيبة ذات مرة: دَعك يا معمّر من هذا الكلام، والتفت إلى بلدك الصغير.
الشعوب الشرقية المعجبة بالاستبداد تتلقى خمسين صفعة على غَفْلة. ومهما مر من الزمن، ومهما تطورت الأمم الأخرى، تراهم يفكّرون في إعادة إنتاج الماضي، وإجراء تجارب أجريت في السابق، وثبت فشلها. والله غالب.