لا "منير" بلا "شيخ"
يظهر محمد منير في حفل "مشواري" تحت رعاية تركي آل الشيخ، وينزعج كثيرون. منير المشروع سلعة ترفيهية، القيمة فقرة في مهرجان، الفنان، الذي شحن وجدان جيلين بقيم الثورة والتمرّد، "نوباتشي" أفراح، شغلته تلبية رغبات الزبون أو الرفيق تركي آل الشيخ، كما وصفه منير. مناقشات وتحليلات و"خناقات"، طفحت على مواقع التواصل الاجتماعي، محاولات للفهم أو الصراخ، ماذا يحدُث وكيف ولماذا؟ لماذا وافق منير أن يتحوّل إلى "شيء"؟ استسلام أم وجهة نظر، هزيمة أم واقعية، أسئلة كثيرة، وغير مهمّة. الأهم، في تقديري، هو لماذا صُدمنا؟ ليس في منير أو حفله أو "شيخه" الجديد، إنما في المطلق، ما الذي يجعل من "الصدمة" وملحقاتها من الألم والحسرة والاكتئاب و"التروما" قدرا مشتركا بين أبناء جيل ثورات الربيع العربي؟
لا، لن أدعوك، هنا، إلى التطبيع مع القبح بوصفه أمرًا واقعا، لكنني أرمي إلى رؤيته، مجرّد رؤيته، وفهمه، وتقدير وزنه وحجمه وتأثيره ثم محاولة تغييره من موقع المعرفة لا الإنكار... نعود إلى منير، فهو نموذج حالة، منير الفنان ومنير النجم. أما الفن، فهو موهبة وصنعة، لا شيء هنا سحري، السحر نفسه "مهنة" لها أصول وقواعد و"روتين"، نزع السحر عن الفن خطوة أولى، ضرورية، لنفهم كيف يعمل الفنانون، أو بالأحرى أغلبهم. القصيدة العذبة قد تصدُر عن شاعر مالح كالح وضيع لا يؤمن بكلمة واحدة مما يقول، لكنه "تمرّس" على تمثل تجارب عظام آخرين وصبّها في قوالب الخيال البلاغي، بل والإنساني، كذلك الرواية، اللوحة، الفيلم، المسرحية، وطبعا الأغنية، لا يعني ذلك موت الفنان "الحقيقي"، إنما يعني أن "الممكن" يتّسع للزائف والحقيقي معا.
يُخبرني الشاعر والصديق رامي يحيى بأن لقاء جمعه مع آخرين بالشاعر الغنائي الكبير مجدي نجيب، ودار الحوار حول الفنانين الذين يجهلون دلالات ما يقدّمونه من "نصوص"، سواء في الغناء أو غيره، يسأله رامي: وماذا عن منير؟ فيؤكّد نجيب أنه لا يفهم شيئا. مطرب محدود الإمكانات الصوتية، محدود الثقافة، محدود الوعي، لديه حلم النجومية، من دون أي شيءٍ آخر، مطربو جيله يفوقونه في ذلك كله، لكنه يجد من "يفهم" صوته، وأداءه، وملامحه، ويوظفه، أحمد منيب في بداية الطريق، شعراء علامات مثل فؤاد حداد، وأحمد فؤاد نجم، وعبد الرحمن الأبنودي، وعبد الرحيم منصور، وسيّد حجاب، وكوثر مصطفى، وغيرهم، موسيقى يحيى خليل وفرقته، شبابيك منير إلى الشارع، ثم إلى النجومية. لم يكن الأمر يحتاج أكثر من أن يطلّ منير، ويمشي وفق "خريطة"، ويصل.
يتكرّر الأمر حين نتحدّث عن النجومية، وشروطها في بلادنا، أن تكون فنانا "ممكن"، أن تكون نجما "لا يمكن"، قبل المرور من بوّابات "الأمن" وتجاوز نقاط التفتيش. لا تصنع الأنظمة نجاحات الفنانين، إنما تستثمر فيها، تمدّ يدها بالدعم المباشر، أو ترفعها، و"تسمح" بالتقدّم، ومن دون المدّ والرفع، لا "نجم" مؤثّرا في الفن أو غيره، الأخطاء واردة، ولذلك الاستثناءات موجودة، لكننا في الأخير أمام "سيطرة" شبه كاملة على منافذ توزيع الوعي. وشرط الوصول القبول في اختبارات "كشف الهيئة" وتسديد "الرسوم". كما أن شرط الاستمرار هو "تجديد الرخصة". أما "الحالات" الاستثنائية فرهن التجميد، في الداخل، أو التشويه والملاحقات الأمنية وقوائم الإرهاب في الخارج، وإليك تجارب فنانين مثل عمرو واكد وخالد أبو النجا وأحمد عيد وجيهان فاضل… وفيها الفارق، الواضح، بين "قاعدة" تركي آل الشيخ واستثناءاتها.
لا يعني ذلك طرح الثقة في المشروعات الفنية التي اجتهد أصحابُها، وفق الممكن والمتاح، في تقديم شيءٍ ذي بال، وكان في وسعهم أن يسلكوا طرقا أسهل وأكثر أمانا، إنما التفرقة الواعية بين عناصر "الصناعة" وشروطها من ناحية، وإكراهات استمرارها، محمولة على أجنحة الذيوع والانتشار من ناحيةٍ أخرى. يسمح لنا ذلك أن نتلقى (وربما نتعاطف) بحذر مع ما يشبهنا من محاولاتٍ فنية، من دون التمادي في "أسطرة" أصحابها، فلا "منير"، هنا والآن، من دون "آل الشيخ"، مع الأسف.