لبنان: استجرار القرار من خارج الديار
لم تمض سويعاتٌ على إعلان الأمين العام لحزب الله اللبناني، حسن نصر الله، عن إبحار سفينة إيرانية محمّلة بالمحروقات صوب لبنان، حتى ضغطت واشنطن على زرّ حل الأزمة عربيًا، معلنة عن خط غاز يمتد فورًا من مصر، قاطعًا الأراضي السورية، والأردنية، ليصل إلى الشمال اللبناني.
إعلان نصر الله عن المنحة الإيرانية جاء في احتفال حاشد بذكرى مقتل الإمام الحسين، لم يكن من المتصوّر أن يمر من دون استثمار سياسي وطائفي، تظهر فيه طهران (الشيعية) في ثوب المنقذ الوحيد الذي يتقدّم لتخليص لبنان من مأساته، بينما أشقاؤه العرب (السنة) منشغلون بأمور أخرى.
لم يكد (الشيخ نصر الله) المتّكئ على طهران ينتهي من إعلانه أن "سفينة المروءة الإيرانية" بمثابة أرض لبنانية محذّرًا كل من يفكر في إعاقة وصولها أو الاعتداء عليها برد حاسم، حتى أطل (الشيخ سعد الحريري) المتكئ سابقًا على الرياض، عبر "تويتر" معتبرًا وصول محروقات إيران إلى حزب الله شكلًا من أشكال التفريط بالسيادة الوطنية اللبنانية، لا يجب السماح به، فضلًا عن أنه يعرّض لبنان للخطر، ويضعه تحت طائلة العقوبات الدولية.
لا يهم هنا التذكير بأن شخصًا بدرجة رئيس وزراء تم اختطافه واحتجازه في فندق بالعاصمة السعودية، ولم يجرؤ على اعتبار ما جرى معه مسّا بسيادة الوطن أو تفريطًا بكرامته، المهم أن يبقى لبنان محشورًا بين فكّي هذه اللعبة الطائفية التي يمارسها ملوك طوائف الدولة العميقة، والذين من المؤكّد أن أحدًا منهم لم يمرّ بتلك التجربة المثيرة التي عاشها الشعب اللبناني كله مدة تجاوزت الشهرين بلا مياه أو كهرباء أو محروقات، كان من المهم لكل مواطن خلالها أن يوطّد علاقته بعاملٍ في محطة وقود، وسائق حاوية نقل مياه، ويتابع في فزع حركة الدولار صعودًا على جثة الليرة، ويفكّر في بديل عن المدرسة لأطفاله المهددين بفقدان العام الدراسي المقبل.
الصحيح أن نصر الله استثمر سياسيًا لصالح إيران في الاحتفال الطائفي، غير أن الصحيح كذلك أن أحدًا من الأشقاء العرب لم يفكّر طوال الشهور الماضية في اتخاذ خطوةٍ لانتشال لبنان من عثرته، ولو من باب التربّح السياسي، كما أرادت أن تفعل طهران، الأمر الذي يطرح سؤالًا حقيقيًا على الممتعضين من إعلان نصر الله عن سفينة الغوث الإيرانية: ما الذي منع العرب، الأشقاء، ويمنعهم، من قطع الطريق على إيران مبكرًا، بتسيير قوافل مساعدة إلى اللبنانيين، ولو من باب التربّح السياسي؟ كما يمكنك أن تطرح السؤال ذاته بشأن حسن نصر الله وطهران: لماذا تأخّرا في هذه الحركة المثيرة كل هذا الوقت؟
بالطبع، سوف تأتي الأجوبة على هذه الأسئلة وغيرها مصبوغةً بألوان طائفية، غير أن المؤكد هنا أن التحرّك نحو إنهاء المأساة اللبنانية انطلق بعد وقت قصير للغاية من "استجرار "الحل الإيراني بمعرفة نصر الله، إذ خرجت الرئاسة اللبنانية، سريعًا، تبشّر بالحل القادم من واشنطن، أو الحل الذي فرضته الولايات المتحدة على أشقاء لبنان، المكتفين بالصمت والفرجة طوال الأزمة، حيث قال حساب الرئاسة على "تويتر" إن "العماد ميشال عون تلقى اتصالًا من السفيرة الأميركية في بيروت أبلغته فيه قرار استجرار الطاقة الكهربائية من الأردن عبر سورية عن طريق الغاز المصري".
وفي التفاصيل التي أعلنتها السفيرة دوروثي شيا أنه سيتم تسهيل نقل الغاز المصري عبر الأردن وسورية وصولاً إلى شمال لبنان، والمفاوضات جارية مع البنك الدولي لتأمين تمويل ثمن الغاز المصري وإصلاح خطوط نقل الكهرباء وتقويتها والصيانة المطلوبة لأنابيب الغاز.
تبدو سرعة القرار الأميركي لافتة، كما أن التفاصيل مثيرة للغاية، غير أن الأكثر من ذلك كله هذا الحضور السريع لثلاث دول عربية، مصر والأردن وسورية، فور الاستدعاء الأميركي، المصحوب بإعلان عن دخول البنك الدولي طرفًا بالتمويل، وذلك بعد ساعات فقط من الإعلان رسميًا عن الدعوة الموجهة من عبد الفتاح السيسي إلى رئيس الوزراء الصهيوني، نفتالي بنيت، لزيارة القاهرة، بالتزامن مع تطورات دراماتيكية في العلاقة بين أنقرة وأبو ظبي.
ظنّي أن المسألة ليست انزعاجًا من الحضور الإيراني المباغت، كون ردّة الفعل الأميركية، المتمثلة في القرار المبلغ إلى الرئاسة اللبنانية، شاملًا العواصم العربية الثلاث، والبنك الدولي، تبدو وكأنها طبخةٌ كانت تنضج طوال الفترة الماضية، مشتملة على عناصر أخرى، تتجاوز النطاق اللبناني إلى ترتيباتٍ شرق أوسطية أوسع، تطلبت الحفاظ على تركيبة الدولة العميقة اللبنانية، بما فيها حزب الله، بوضعها الحالي، وانتشالها من أزمةٍ غير مسبوقة، تنذر بانهيار رقعة الشطرنج وبعثرة كل ما فوقها من قطع.
لكن يبقى وسط كل هذا الضباب الكثيف أن المواطن اللبناني وصل إلى مرحلةٍ من المعاناة جعلته لا يمانع في القبول بما ينهي أزمته مع المياه والطاقة، حتى لو جاء الحل من الشيطان نفسه.