16 نوفمبر 2024
لبنان الذي ينتحر
إذا راودك ظنٌّ أنه ربما لا يكون صحيحا قولُ الجيش اللبناني إن موت أربعة سوريين نازحين، كانوا موقوفين لديه، كان "بسبب تفاعل أمراضٍ صحيةٍ مزمنةٍ مع الأحوال المناخية"، فإنك، في فعلتك هذه، تخرُج عن وجوب "الدعم المطلق الذي لا لبس فيه" للجيش اللبناني والقوى الأمنية في مواجهة الإرهاب والجماعات الإرهابية، كما تقرّر في اجتماع لممثلي وسائل الإعلام اللبنانية، المرئية والمسموعة والمكتوبة، أمس الأربعاء، في مقر تلفزيون المستقبل. وإذا كنت إعلاميا لبنانيا، واقترفت هذا الظن، فإنك تشذّ عن اتفاقٍ انتهى إليه الاجتماع، وتقرّر فيه تهميش كل الأصوات المشكّكة بالمؤسسة العسكرية والمسيئة لها، وأن على الإعلام أن يتقدّم صفوف مواجهة الإرهاب. وهو اتفاقٌ يصطفُّ مع شواهد غزيرة، باتت تتراكم تباعا، على أن لبنان ينتحر، كان منها، يوم الجمعة الماضي، مشهد الشبّان السوريين النازحين مبطوحين في الخلاء، على بطونهم العارية، مقيّدين، بعد اقتحامٍ لمخيمهم في عرسال، جرى في أثنائه اعتقال أربعمائة ممن فيه، وقُتل في الأثناء أربعةٌ منهم، وجرى تسويغ ذلك كله ضمن حملة الجيش وقوى الأمن اللبنانية في مواجهة الإرهاب، والذي قال عنه الإعلاميون المجتمعون في تلفزيون سعد الحريري، إنه "يتهدّد الحضارات والهويات والكيانات بأوخم العواقب".
لولا أن أصوات نخبةٍ لبنانيةٍ مثقفةٍ أبدعت، في مقالاتٍ وتعليقاتٍ عالية القيمة، في تحقير العنصرية غير الخافية في السلوك المريض الموصوف، وفي القول إنه متّأتٍ من عنصريةٍ أبعد، مقيمةٍ في الكينونة اللبنانية كلها، كما كتبوا وشرحوا، لولا هذه الأصوات البديعة، لكان خوفنا من الانتحار اللبناني الذي لا يتوقف أعرض. ولولا أن رهانا يظلّ باقيا على أن حصانةً ما، ولو ضئيلة الحيز والتأثير، ستحمي لبنان من مآلات هذا الانتحار، لزادت أرطالُ الجزع فينا من العنصرية المقيتة، النشطة، هذه المرة، ضد السوريين، نازحين وغير نازحين، أرطالا أكثر فأكثر. وهو انتحارٌ يأخذ لبنانَ إليه أمثال أولئك الصحافيين الذين رفعوا أمس بيارق الذّود عن حياض البلد، بلغةٍ بعثية المفردات، حضرت فيها أنفاسٌ ترامبية، وتلويناتٌ من قاموس الكلام الكبير إياه، في أتون المعركة العالية الهمة ضد الإرهاب والإرهابيين. وكذا أمثال العسكريين الذين مارسوا في عرسال مرجلةً، بقدر ما أحدثت من استنكارٍ واستهجانٍ وفيريْن، استدعت من أرشيفٍ غير منسيٍّ وقائع محرجة، لا يُمنح الجيش اللبناني، في غضونها، صفة الغضنفر الهمام التي بدا عليها، وهو يخوض موقعة عرسال هذه.
أن يتداعى إعلاميون إلى تهميش أي أصواتٍ تشكّك بالمؤسسة العسكرية، وتسيء إليها، خبرٌ لا يستثير أي حفيظةٍ لو ذاع بصدد البلد العربي الفلاني أو العلاني، لكنه في لبنان يعني أن تنويعاتٍ متعددةً صارت لهرولة هذا البلد إلى الانتحار، من تمثيلاتها في الموضوع السوري الراهن جولات الحرائق التي تتكرّر في خيام اللاجئين والنازحين، والذين يكاد السوريون ينحصرون بهم، وبالأطفال والصغار المتسوّلين في الشوارع، وتناسي الذين أنعشوا اقتصاد العقارات والمنازل والشقق المؤجرة، والذين أحدثوا تحسينا ظاهرا في نشاط القطاع الزراعي، وكذا الذين تدفّقت رساميلُ منهم إلى بنوكٍ لبنانية، فاقت خمسة مليارات دولار في 2014. وقد أحاطت مطالعةٌ للزميل صقر أبو فخر نشرها "العربي الجديد" (23/6/2017) بجوانب كثيرة في هذا الموضوع.
لبنان الذي تغنّت به الزجليات المشهورة يغاير الصورة التي أذاعتها عنه "هيومان رايتس ووتش"، قبل أعوام، عن مقتل خادمةٍ فيه كل أسبوع تقريبا، من بين 200 ألف خادمة، كثيراتٌ منهن إثيوبيات. لبنان المنفتح، والمتعدّد، والملتقى لمختبرات التفكير والنقد والتجريب في السياسة والفنون، لا تعكسه صورة السوريين المبطوحين، واضطراب الأخبار عن مقتل أربعةٍ في ضيافة الجيش، بسبب من تزامن أمراضهم مع المناخ الحار، فيما مصادر لها احترامها ومصداقيتها تتحدّث عن مقتل سبعة، أو عشرة، تحت التعذيب، نُشر، والله أعلم، إن بينهم امرأة قطع رأسها.
لا يُرضي العرب أن ينتحر لبنان الذي يحبّون الاستجمام والتجوّل فيه، ولا يرضيهم أن تموت صحافته، بعد ازدهارها الجذّاب، وينشط الآن منتسبون إليها في تعويم المسلكيات القهرية المرذولة. لا يكون لبنان كبيرا وعظيما إلا بانفتاحه، ثقافيا واجتماعيا على الجميع، وعندما يحترم عسكرُه وتلفزاته السوريّ المسكين المهدور الكرامة.. وإلا فإنه ينتحر.
لولا أن أصوات نخبةٍ لبنانيةٍ مثقفةٍ أبدعت، في مقالاتٍ وتعليقاتٍ عالية القيمة، في تحقير العنصرية غير الخافية في السلوك المريض الموصوف، وفي القول إنه متّأتٍ من عنصريةٍ أبعد، مقيمةٍ في الكينونة اللبنانية كلها، كما كتبوا وشرحوا، لولا هذه الأصوات البديعة، لكان خوفنا من الانتحار اللبناني الذي لا يتوقف أعرض. ولولا أن رهانا يظلّ باقيا على أن حصانةً ما، ولو ضئيلة الحيز والتأثير، ستحمي لبنان من مآلات هذا الانتحار، لزادت أرطالُ الجزع فينا من العنصرية المقيتة، النشطة، هذه المرة، ضد السوريين، نازحين وغير نازحين، أرطالا أكثر فأكثر. وهو انتحارٌ يأخذ لبنانَ إليه أمثال أولئك الصحافيين الذين رفعوا أمس بيارق الذّود عن حياض البلد، بلغةٍ بعثية المفردات، حضرت فيها أنفاسٌ ترامبية، وتلويناتٌ من قاموس الكلام الكبير إياه، في أتون المعركة العالية الهمة ضد الإرهاب والإرهابيين. وكذا أمثال العسكريين الذين مارسوا في عرسال مرجلةً، بقدر ما أحدثت من استنكارٍ واستهجانٍ وفيريْن، استدعت من أرشيفٍ غير منسيٍّ وقائع محرجة، لا يُمنح الجيش اللبناني، في غضونها، صفة الغضنفر الهمام التي بدا عليها، وهو يخوض موقعة عرسال هذه.
أن يتداعى إعلاميون إلى تهميش أي أصواتٍ تشكّك بالمؤسسة العسكرية، وتسيء إليها، خبرٌ لا يستثير أي حفيظةٍ لو ذاع بصدد البلد العربي الفلاني أو العلاني، لكنه في لبنان يعني أن تنويعاتٍ متعددةً صارت لهرولة هذا البلد إلى الانتحار، من تمثيلاتها في الموضوع السوري الراهن جولات الحرائق التي تتكرّر في خيام اللاجئين والنازحين، والذين يكاد السوريون ينحصرون بهم، وبالأطفال والصغار المتسوّلين في الشوارع، وتناسي الذين أنعشوا اقتصاد العقارات والمنازل والشقق المؤجرة، والذين أحدثوا تحسينا ظاهرا في نشاط القطاع الزراعي، وكذا الذين تدفّقت رساميلُ منهم إلى بنوكٍ لبنانية، فاقت خمسة مليارات دولار في 2014. وقد أحاطت مطالعةٌ للزميل صقر أبو فخر نشرها "العربي الجديد" (23/6/2017) بجوانب كثيرة في هذا الموضوع.
لبنان الذي تغنّت به الزجليات المشهورة يغاير الصورة التي أذاعتها عنه "هيومان رايتس ووتش"، قبل أعوام، عن مقتل خادمةٍ فيه كل أسبوع تقريبا، من بين 200 ألف خادمة، كثيراتٌ منهن إثيوبيات. لبنان المنفتح، والمتعدّد، والملتقى لمختبرات التفكير والنقد والتجريب في السياسة والفنون، لا تعكسه صورة السوريين المبطوحين، واضطراب الأخبار عن مقتل أربعةٍ في ضيافة الجيش، بسبب من تزامن أمراضهم مع المناخ الحار، فيما مصادر لها احترامها ومصداقيتها تتحدّث عن مقتل سبعة، أو عشرة، تحت التعذيب، نُشر، والله أعلم، إن بينهم امرأة قطع رأسها.
لا يُرضي العرب أن ينتحر لبنان الذي يحبّون الاستجمام والتجوّل فيه، ولا يرضيهم أن تموت صحافته، بعد ازدهارها الجذّاب، وينشط الآن منتسبون إليها في تعويم المسلكيات القهرية المرذولة. لا يكون لبنان كبيرا وعظيما إلا بانفتاحه، ثقافيا واجتماعيا على الجميع، وعندما يحترم عسكرُه وتلفزاته السوريّ المسكين المهدور الكرامة.. وإلا فإنه ينتحر.