لبنان العام الجديد
هلّ العام الجديد على لبنان، فسجّل في يومه الأول ارتفاعاً ملحوظاً في سعر صرف الدولار مقابل الليرة اللبنانية بلغ حوالي ثمانمائة ليرة لبنانية في يوم واحد، فوصل إلى 28.300 ليرة مقابل الدولار، في حين أنّه أغلق العام الماضي على مبلغ لا يتخطى 27.500، ما يؤكد على أنّ تراكم تبدل سعر صرف الدولار لم يعد وفق متوالية حسابية تراكمية Arithmetic progression، بل وفق متوالية هندسية تضاعفية Geometric progression تشي بأنّ فقدان الليرة اللبنانية، والرواتب الرسمية المرتبطة بها، قيمتها وقدرتها الشرائية، سيكون حديث الساعة في المقبل من الأيام.
أما الحادثة الثانية التي وقعت في اليومين الأخيرين من العام الفائت، فليست جديدة تماماً، بل تؤكد على البقاء رهن المسار السابق إياه، أعني حادثة توقيف شحنة مخدّر الكبتاغون التي كانت متجهة إلى دول الخليج، ما سيعيد فتح ملفات غير مختومة بعد، وخلط أوراق لم تعالج حتى اللحظة، كلها تتمحور حول مقاطعة دول الخليج لبنان، وعلاقاته المأزومة بها جرّاء ممارسات حزب الله، وانعكاس هذه الأزمة على المستوى اللبناني الداخلي المنهار سلفاً، مع ما يعنيه من زيادة مأزق نجيب ميقاتي، ومأزق حكومته التي تقع في دائرة نفوذ المحور الإيراني بشكل علني، ناهيك عن إعادة فتح ملف عدم قدرة الدولة اللبنانية بمجملها، والتي تقع ضمن سيطرة الحزب، على ضبط الحزب وردعه، وقد بات اسمه مرتبطاً بهذا الملف، وهذا من المطالب الأساسية التي تشترطها الدول الخليجية لبداية التفكير في إعادة عقارب الساعة إلى الخلف، وذلك كي يعاد التفكير في إمكانية وضع الأزمة على سكة المعالجة الممكنة.
تصاعد عمليات السلب والجريمة وحالات الانتحار التي تضرب عميقاً في المجتمع اللبناني
فوق هذا وتلك، لا يمكن إغفال تصاعد عمليات السلب والجريمة وحالات الانتحار التي تضرب عميقاً في المجتمع اللبناني، والتي تطرح أسئلة محورية وضرورية عديدة على الأجهزة الأمنية وعلى المواطنين الخائفين على حياتهم وعلى أمنهم الشخصي، ما يضيء على مشكلات ستتضاعف في الأيام المقبلة كذلك، نظراً إلى العلاقة الجدلية التي تربطها، أعني علاقة الانعكاس الطردي بين تزايد نسبة الفقر والعوز والبطالة من جهة وتفشي وتصاعد أعمال الجريمة من جهة أخرى.
هذا من دون أن ننسى مدى حراجة وضع القطاع الطبي، وكثافة الأسئلة المتعلقة بالكوارث التي تعصف بالقطاع الصحي بشكل مباشر، أو التي تعصف بالقطاعات المرتبطة به بشكل غير مباشر، مثل القطاعات الضامنة وقطاع التأمين وصولا إلى قطاع الصيدليات. وبالكلام عن الأخيرة، لا يمكن إغفال أزمة الدواء، لناحية انقطاعه أو توفره بأسعار خيالية، لا سيما أدوية الأمراض المستعصية. وفوق هذه وتلك، الأزمة الناجمة عن الهجرة والنزيف المستمر للأطباء، وفقدان المجتمع اللبناني أولئك الذين يتمتعون بالكفاءة المطلوبة، وأصحاب الاختصاصات الحرجة، هم وأساتذة التعليم الرسمي والجامعي… إلخ. والقطاع الأخير، التربوي التعليمي، يشي كذلك بأزمات مستفحلة ستواجهه، فقد وصلت سياسات التصدّق التي تمارسها الحكومة تجاه مؤسساتها وأساتذتها في التعليم، سواء التعليم الأساسي أو الثانوي أو الجامعي، إلى حائط مسدود، لأنها لم تعد تسدّ الحد الأدنى من الثغرات المطلوب منها أن تسدّها. ازدياد كلفة العيش، بالشكل الجنوني الذي نشهده، سيحوّل الرواتب وكلّ المساعدات التي يتقاضاها الأساتذة إلى لا شيء، لأنّها لن تكفي لدفع فاتورة اشتراك المولدات الخاصة. بالإضافة إلى أنّ ارتفاع أسعار المحروقات سيطيح وسائل التدفئة في فصل الشتاء، وسيطيح كذلك إمكانية وصول الأساتذة وموظفي القطاع العام إلى أماكن عملهم، وستكون له تداعيات خطرة جداً على أبسط ضروريات استمرار حياة الدولة الإدارية وانتظامها، وشروط عيش الناس الأساسية.
ازدياد نسب البطالة، بالإضافة إلى ازدياد نسبة الذين سيعيشون تحت خط الفقر بسبب فقدان مصادر رزقهم
لا يُنسى أيضاً الكلام المستجدّ عن الأزمة التي ستواجه قطاع الاتصالات، والخوف على تأثر جودتها وصولاً إلى إمكانية فقدانها، بالإضافة إلى تأثرها جرّاء الانقطاع المستمر للتيار الكهربائي وفقدان مواد المازوت والفيول الضرورية لتشغيلها وتشغيل معدّاتها، وما سيخلّفه من تداعيات خطرة بسبب انفصال قطاعات أساسية عن الشبكات العالمية، وبالتالي تدهورها بأشكال مختلفة تبدأ بشكل جزئي وقد تصل إلى حد الانهيار.
كلّ هذا في ظلّ كلام عن توجّه آلاف المتاجر، التي ما زالت تصارع، نحو إغلاق أبوابها، ما سينعكس في تزايد أعداد المعطلين عن العمل، وازدياد نسب البطالة، بالإضافة إلى ازدياد نسبة الذين سيعيشون تحت خط الفقر بسبب فقدان مصادر رزقهم، وتراكم (وازدياد) الانحلال الذي سيواجهه المجتمع في الأشهر المقبلة، وسيؤدّي إلى تغوّل هيمنة قوى النظام على مناطقها خارج أي شريعة أو قانون، بل استغلال الناس في حاجياتها الضرورية للعيش، وإمكانية ترجمة هذا إلى الاستغلال يقلب نتائج الانتخابات النيابية، ويكرّس المزيد من الهيمنة عبر كثافة الأعمال المليشياوية في المجتمعات المحلية.
هذه لمحة سريعة على مشكلات أساسية ستواجه المجتمع اللبناني والدولة اللبنانية في الأيام المقبلة، والتي لا تنفع معها سياسات التذاكي والتنصّل من المسؤولية التي تمارسها قوى السلطة تاريخيًا، والتي لم تعد تنطلي على أحد، على سبيل تراشق الاتهامات وتقاذف المسؤوليات، بل إنّ مأساوية الحال تعني، في ما تعنيه، أن هناك حاجة ملحّة للمعالجة، ليس بإمكان القوى التي كانت سببها القيام بها.
أيّ تلكؤ في معالجة الأزمات الأساسية سيحولها إلى كوارث لا يمكن تفاديها، ولا يسمح بإمكانية معالجتها بفعالية
الانهيار سيد الموقف، لأنّ استبدال النار بالرمضاء ليس حلا، وهذا بالتحديد ما لا يريد أن يلتفت إليه المجتمع الدولي الذي سيبقينا في المأزق نفسه تمسّكه بمحاولات إعادة إنتاج النظام، بأشكال مختلفة. أولاً، عبر المحافظة على حكومة مثل الحكومة الحالية، حكومة السلطة، وإن ببعض أسماء مختلفة. وثانيًا، من خلال إسناده إلى هذه الحكومة مهمة الإشراف على الانتخابات النيابية. إذ مهما كانت نتائج الانتخابات، ووفق أي قانون، سيكون مطعونا فيها سلفاً، وخصوصاً أن تجربة اللبنانيين المريرة مع فساد قوى السلطة وتزويرها وترهيبها وترغيبها لا يمكن غضّ الطرف عنه بسهولة.
كل المؤشّرات تعني أن سيناريو العام الجديد سيكون أسوأ وبدرجات من العام السابق، فالمعادلة هي: أي تلكؤ في معالجة الأزمات الأساسية سيحولها إلى كوارث لا يمكن تفاديها، ولا يسمح بإمكانية معالجتها بفعالية، فكيف إذا كانت محاولة المعالجة هي حكومات تمثّل وجهًا آخر للبلاء؟ فما كان من الممكن تفاديه، أو معالجته، في بداية مرحلة التدهور، تحوّل إلى حالة تعكس انهياراً تاماً ضرب مفاصل الدولة بأكملها.
في جميع الأحوال، ونظراً إلى التجربة، ونظراً إلى اليقين بعدم إمكانية أيّ علاج في ظلّ ذهنية قوى السلطة القائمة والمستمرّة، ونظراً إلى بقائها واستمرارها كقوى في قلب السلطة، يبدو سياق الأمور قاتماً جداً، ويبدو أنّ سنة صعبة جداً ستمرّ على اللبنانيين وعلى المقيمين في لبنان... فلنتشبث.