لبنان تحت الحصار العربي
منذ أكثر من شهرين، ولبنان يختنق بأزمات الوقود والمياه والكهرباء، فيما كان العالم العربي يتفرّج، بعضهم بسعادة غامرة، وبعضهم الآخر بتعاطف، لم يستفد منه المواطن اللبناني، بل استفادت منه الطبقة السياسية المُنتجة لعذابات هذا المواطن وآلامه.
انفجار صهريج الوقود المهرّب في منطقة عكار الشمالية فجر أمس، مخلفًا 28 قتيلًا وعشرات الجرحى، يرسم صورةً مخيفةً لما يمكن أن يكون عليه لبنان كله، إذا تركه العرب وحده يشتعل بأزمته السياسية، المنعكسة كوارث اقتصادية واجتماعية، تتحرّك وتكتمل بفعل أكثر من فاعل.
المقصود هنا هم العرب الذين أتعبتهم ثرواتهم المتضخّمة، فراحوا يتنافسون في البحث لها عن مصارف ومسارب يهدرونها فيها. العرب الذين ينفقون ببذخ على صناعة الخراب والظلام والفقر والاقتتال الأهلي، عرب ميسّي والمستوطنات الصهيونية والممثل محمد رمضان .. عرب الحانوكا الذين أضاءوا أبراج دبي وأبوظبي بألوان العلم الصهيوني، ويحيون احتفالات الاحتلال الإسرائيلي الدينية، كما جرى عقب توقيع أبراهام الذي دشنوا به ديانة جديدة مشتركة بينهم وبين الاحتلال.
في ذلك الاحتفال المشين، تحدّث مطربون وحاخامات صهاينة معبّرين عن سعادتهم بالإمارات الجديدة التي قالوا فيها "إنها ألمع ضوء في هذه المنطقة". هل كانوا مطلوبًا إطفاء جوهرة المدن العربية، ومنارتها الثقافية، بيروت، حتى تلمع مدن/ مستوطنات إسرائيل في عواصم التطبيع الجديدة؟
المعضلة هنا أن محور التطبيع العربي ليس وحده الذي يتفرّج بسعادة على إطفاء لبنان وخنقه بالسولار والدولار من صور إلى عكار، فالحاصل أن محور الممانعة أو المقاومة يفعل الشيء نفسه، ويقوم بدور لا يقل بشاعةً في خنق البلد المقاوم، لتتشكّل صورة مرعبة، يبدو انفجار صهريج وقود عكار مجرّد تفصيلة صغيرة من تفاصيلها.
هذا الواقع البائس بات يشكل قناعةً راسخةً لدي اللبنانيين، باختلاف طوائفهم وشرائحهم الاجتماعية، وبشكل خاص الذين شاركوا في ثورة "17 تشرين" (2019)، وهتفوا "كلّن يعني كلّن" سواء من جيل الشباب، أو ذلك الجيل الذي عاش فترة الحرب والمقاومة ضد الغزو الصهيوني، وكما قال لي بعضهم "كنا نظنّ أن أشرس عدو هو العدو الصهيوني، لكننا من بعد 17 تشرين اكتشفنا أنهم سواء "وكلّن يعني كلّن" لا نستثني أحدًا لا يمين ولا يسار .. لا إسلامي ولا مسيحي من كل المذاهب من كل الطوائف".
بات اللبناني يدرك أن كل اللاعبين الداخليين (فرقاء الدولة العميقة) والإقليميين، والدوليين، لا يتخيلون وطنهم سوى ساحةٍ للعب والصراع، فيما بينهم، حتى لو أدّى الأمر إلى احتراقه وتفحّمه، فالمهم أن يبقى الملعب تحت تحكّمهم، وأن تبقى النار بعيدةً عن ثيابهم.
يفاقم هذا الانطباع أن الأنين لم يتوقف منذ أكثر من عشرة أسابيع، تضاعف خلالها سعر الدولار أمام العملة المحلية ثماني مرات تقريبًا، ليسجل الدولار الواحد 24 ألف ليرة، وتقطّعت الجسور والمعابر وأصيب البلد بالشلل، من دون كهرباء أو مياه، حتى أعلنت المستشفيات عن إغلاق أبوابها، وتوشك المدارس أن تعلن تأجيل بدء العام الدراسي. وعلى الرغم من ذلك لا رد فعل من العواصم العربية، يمكن أن يسهم في انتشال المواطن اللبناني من هذه المأساة، باستثناءاتٍ محدودة، منها إعلان الحكومة القطرية تقديم 70 ألف طن من مساعدات غذائية إلى الجيش اللبناني، وعقد لقاء لرئيس أركان الجيش مع وزير الدفاع المصري، وإعلان واشنطن زيادة مساعداتها العسكرية للجيش أيضًا.
في مقابل ذلك الذي يشبه حصارًا، تصفعك أنباء تأسيس صندوق إماراتي لدعم الاستثمار في الاحتلال الصهيوني بعشرة مليارات دولار، والذي تقول عنه وكالة أنباء الإمارات الرسمية إن الصندوق سيركز على الاستثمارات الاستراتيجية، وفي مقدمتها قطاعات الطاقة والفضاء والصحة والتقنية الزراعية.
المفارقة أن وكلاء الممانعة يردّدون أن لبنان يعاقَب على مقاومته، وعلى الناحية الأخرى تبدو وكالة الممانعة والمقاومة وكأنها هي التي تعاقب الشعب اللبناني، وتمعن في خنقه، لا لشيء سوى أنه فكّر ذات يوم في تحطيم كل أصنامه العميقة، والبحث عن لبنانٍ عابر للطائفية، وثائر على كارتيلات الثروة والسلطة، فكان لا بد من كسره وإخضاعه وخنقه بالأزمات، لكي يستمر كل أمراء الحرب في أماكنهم، ليكونوا كلهم أمراء مرحلة ما بعد التطبيع الإجباري .. كلّن يعني كلّن.