لبنان من أسطورة الفينيق إلى طائر الرخم
يسهل تتبّع تلك الأسطورة التي يتمسّك اللبنانيون بها اليوم، وتقول، بشكل موارب أو علني، إن مجرّد انتخاب رئيس جديد للجمهورية سيعيد الأمور إلى نصابها الصحيح، بحيث تكون أولى بوادر الخروج من المأزق والتيه الذي يعيشه اللبنانيون اليوم، بعد كل هذا الدمار والانهيار، وبعد كل هذه الآلام.
هي أسطورة جديدة، او لربما نسخة جديدة عن أسطورة قديمة تضاف إلى عالم الأوهام اللبنانية الذي يهيم فوق المشهد الأيديولوجي الطائفي السائد، مرورًا بأسطورة "التفوّق العرقي"، وغيرها من أساطير تهيمن على الأيديولوجيّة اللبنانويّة على سبيل "نقطة وصل الشرق والغرب"، و"واجهة الشرق نحو الغرب"، و"وجه العرب"... إلخ، والتي لا تقلّ خطورةً عن أسطورة طائر الفينيق، ولا تؤشّر إلى ما يتخطّى هذا العقل المهيمن.
تنتج هذه الأساطير منطقا يختصر آلية التفكير التي تظهر بين حين وآخر، لتشكّل امتدادًا لذهنيةٍ مأزومةٍ ترى أن كل ما يمر اللبنانيون فيه، في الحروب الأهلية السابقة، أو في الانهيار الذي نعيشه اليوم، هو بفعل فاعل من قوى خارجية، أحيانًا الأميركي، وأحيانًا الروسي، ودائمًا الإسرائيلي، ولاحقًا الخليجي، وقبلهم الفلسطيني، وبعدهم السوري ... إلخ، فاللبنانيون، وفق هذا المنطق وهذه العقلية، ضحية هذه "المؤامرات"، ما يعكس ذهنية تتأسس على التنصّل من المسؤولية بشكل مستمر، ورمي السبب على الآخر، والتلطّي خلف كل الأعذار وشروطها، وهي ذهنيةٌ لا تعترف بالخطأ وغير قادرة على تحمّل المسؤولية وبالتالي المعالجة.
لطالما هيمنت على الذهنية اللبنانويّة مجموعة أوهام تعوم على قشرةٍ خارجيةٍ تخاصم العلم وتقلب العلاقة بين السبب والنتيجة، وفي مقدمتها أسباب الانهيار الذي نمر فيه وبه اليوم. إن أحد تفتّحات هذه الذهنية وصل إلى أن تماثل الدولة اللبنانية، سيما رئيس جمهوريتها، بطائر الفينيق الذي ينبعث من رماده ودماره وموته بشكل مستمر، فتكون الدولة على موعدٍ دائمٍ مع الانبعاث، على موعدٍ مع التحليق بعد كل منحدر، ما أن تُعالج أزمة الفراغ في رأسها.
لطالما هيمنت على الذهنية اللبنانويّة أوهام تعوم على قشرةٍ خارجيةٍ تخاصم العلم
يغفل هذا العقل الأسطوري عن حقيقة الوضع القائم، وعن المأزق الفعلي الذي تقع البلاد فيه، لأنه لا يقرأ الحدث من الأساس، من المجتمع، من الاقتصاد، والذي للمصادفة لم يقرأه أي طرفٍ سلطويٍ أو حتى تغييري. أزمة هذا العقل أنه يخاصم الواقع، فيحاول تعليب الواقع وفق ما يرتئيه رغبويًا، بحيث يبقى أي وضع سياسي، أو أي مأزق اجتماعي، في منأىً عن أي تغيير. لا بل يحاول، بكل الأشكال الممكنة، تغيير تلك القشرة على اعتبار أنها علاجٌ ناجع، فهو عقلٌ يتسطّح على مستوى الظاهر في أي أزمة اجتماعية، لا يحاول التفكير في بنيتها، ولا في بنيان النظام، لا يحاول البحث في المأزق الفعلي على مستوى علاقات الناس خلال إنتاج شروط عيشهم، فيبقى هائمًا في الفضاء، يسقط هذه المعادلة هنا، ويسقط تلك هناك، ويظهر معه وكأن الأزمة التي تضرب عميقًا في بنية النظام اللبناني يمكن علاجها بقليلٍ من التحسينات والإصلاحات والتغييرات، من داخل بنية النظام نفسه.
هذا من دون أن نغفل أن النَفَس الذي يهيمن على هذه القراءة المبتورة طائفيٌّ بالأساس، على اعتبار أن رأس الدولة هو الممثل الأساس لكيان لبنان، انطلاقًا من ارتباط تكوين الدولة اللبنانية بالوجود الماروني. لذلك، نرى الأمر يتكثّف على مستوى الساحة المسيحية وقواها، وصولًا إلى رأس البطريركية ودعواتها المستمرّة لسد هذا الفراغ، وصولًا إلى الدعوة للصلاة لإنهاء هذه المهمة، ودفاعها المستميت عن أي شخصيةٍ في أي موقع ماروني، كما دعواتها المستمرّة لرفض كل ما يمسّ القابع في موقع رئاسة الجمهورية على اعتبار أنه مسّ الطائفة نفسها، وبالكيان اللبناني، وذلك على خلاف المسّ ببقية المراكز الطائفية في الدولة، خصوصًا رئاسة الحكومة أو الموقع السني الأول، والذي بقي تحت نيران ميشال عون وجبران باسيل، حتى بعد أن تمت، بدعم حزب الله، مصادرة جزء أساس من صلاحياته.
الأزمة في لبنان صعبة على مستوى مخيال القوى المحافظة، والأخرى اليمينية، وقوى الجوهرانية التاريخية
الأزمة في لبنان صعبة على مستوى مخيال القوى المحافظة، والأخرى اليمينية، وقوى الجوهرانية التاريخية، إلا أن الانهيار يمسّ هذه القوى في بنية إدراكها، وفي قيمها، وفي منظورها إلى طبيعة المجتمع والدولة كذلك، فما ينهار الآن ليس شكلا من أشكال النظام فحسب، بل الأمر يتخطى ذلك، لأن المأزق الذي لا يكفّ اللبنانيون على التصادم معه وفيه منذ أكثر من مائة عام لم يعد من الممكن اختصاره بأي جزئيةٍ من هنا أو من هناك، بل لا بد من البحث في طبيعة الدولة وليس مجرّد نظامها السياسي. لا بد من البحث قبل ذلك في وضع لبنان بشكل عام، وبوجوده على الخريطة، وبحدوده، إن كان لأي لبنان من بقاء كمجتمع سياسي منظّم ينعكس في شكل دولةٍ مستقلة.
لا شك أن عالم الأساطير اللبنانية أمام مأزقٍ هو الأول والأخطر من نوعه، إذ يتخطّى مأزق الحرب الأهلية الذي يبدو أمام انهيار اليوم وكأنه نزهة، فقد بدأت علامات الاستفهام تطاول جوهر هذه الدولة، جوهر هذه التركيبة، من أسفل، من الأساس الاقتصادي، وصولًا إلى كل الأساطير المرتبطة بها، وفيها، والتي كانت تتكاثر عبر التاريخ لتعكس رؤيةً متضخّمة لشعب ودولة مفترضة لا تستطيع تأمين أبسط شروط العيش والانتظام لناسها، فتسقط معها أسطورة طائر الفينيق لتترك مكانه، لربما، لطائر الرخم.