لتستمرّ المقاطعة
نستعيد هنا السجال الذي دار بين زعيم الهند التاريخي وبطل استقلالها، المهاتما غاندي، وشاعرها الكبير طاغور، في ذروة المقاومة المدنيّة الواسعة للاستعمار البريطاني للهند، يوم سادت حملة لإحراق الأقمشة الأجنبية صيانةً للأقمشة الهندية، حيث دعا غاندي إلى عودة الهنود إلى مغزلهم اليدوي ليصنعوا ملابسهم بأنفسهم، حتى أنه استهجن موقف صديقه طاغور وخاطبه بالقول: "عندما فقدنا مغزلنا فقدنا رئتنا اليسرى، ولذلك نحن نشكو الآن مرض السلّ، ولن نستطيع وقف هذا المرض حتى نُعيد المغزل" .
قال غاندي شيئاً آخر مهمّاً: "من الخطيئة أن أشتري القمح الأميركي في حين أنّ جاري الذي يبيع القمح الهندي لا يجد من يشتريه منه. كما أني أذنب إذا اشتريتُ الأقمشة الإنكليزية الغالية، مع أني أعرف أني لو اشتريت القماش الذي غزله ونسجه عمّالٌ هنود فإني استطيع أن أكسو نفسي وأكسوهم. ولذلك، عندما يتحقق لي ذنبي، وتفتضح أمام عيني خطيئتي، يجب أن أعمد إلى ما أملكه من ملابس أجنبية فألقيها في النار وأطهر بذلك نفسي، ثم أقنع بأن ألبس القماش الهندي الذي ينسجه أبناء الهند حولي، وإذا لم أجد هنوداً يغزلون، فإني أرى أن عليّ أنا نفسي أن أقوم بالغزل، حتى يقتدي بي الناس". وفي تلخيص بليغ لرأيه، قال وهو يخاطب الشاعر طاغور: "ملايين الهنود تطلب قصيدة واحدة من الشعر، هي الطعام المقوّي، ولن ينالوه إلا بالعمل الذي نقدّمه لهم" .
نشأ هذا النهج لدى غاندي عندما كان مقيماً في جنوب أفريقيا، في مسعى منه إلى الوقوف مع العمّال الآسيويين المقيمن فيها، حين دعاهم إلى سلوكٍ مشابهٍ في مقاطعة بضائع من يستغلونهم، ثم نقل تجربته هذه إلى وطنه الهند، وقاد شعبها في معركة الاستقلال متجنّباً استخدام العنف وسيلة لبلوغ هذا الهدف، وبدأ الحملة بتعبئة الناس للاعتراض على ضريبة الملح المُغالى فيها، وسيلةً من وسائل التصدّي للاحتلال البريطاني، عبر حرمانه من كل ما من شأنه أن يمدّه بالمال وقوّة العمل، وهو النهج الذي أثبت فاعليته في حمل المستعمر على إعادة حساباته، واضطراره لاحقاً للتخلّي عن هيمنته.
وتذكيرنا بدعوة غاندي إلى مقاطعة الأقمشة الأجنبية مرتبط بحملة مقاطعة منتجات الشركات الأجنبية التي تجاهر بدعمها إسرائيل في عدوانها الوحشي على قطاع غزّة وعلى كل الأراضي الفلسطينية المحتلة، وهي الحملة التي انطلقت غداة العدوان الذي دمّرالقطاع وقتل عشرات الآلاف من سكّانه في حرب إبادة لم يعلم العالم مثيلاً لها منذ زمن طويل، فضلاً عن أضعاف هؤلاء من المصابين والجرحى، وعن حملات التهجير المتواصلة.
لعلّ الشرارة التي أشعلت حملة مقاطعة الشركات الداعمة للعدوان في البلدان العربية وكذلك الإسلامية أو ذات الأغلبية المسلمة، ولدى جالياتٍ كثيرة في البلدان الغربية أيضاً، كانت الخطوة الاستفزازية التي قام بها صاحب امتياز سلسلة مطاعم ماكدونالد في إسرائيل، ألونيال، بتوزيع آلاف الوجبات المجانية على الجنود الإسرائيليين، غداة بدء العدوان، إذ أصبحت لا "ماكدونالد" وحدها، وإنما ايضاً عشرات الشركات ذات المصالح المشتركة مع إسرائيل، هدفاً لحملة المقاطعة. وتشير المعطيات إلى تراجع مبيعات كثير من هذه الشركات، وفي مقدّمتها "ماكدونالد" بالذات، وهو الأمر الذي حمل الشركة الأم على إعادة 225 متجراً يحمل اسمها في إسرائيل إلى ملكيتها، ويعمل فيها قرابة خمسة آلاف شخص، ومن دون المبالغة في مدى أهمية هذه الخطوة، فإنها بالتأكيد تحمل مغزىً معنوياً مهماً، كأن الشركة أرادت "البراءة" من وكيلها في إسرائيل، لمحاولة تحسين صورتها، والإيحاء برفض ما قام به، بعد اعتراف السلسلة بالآثار السلبية للمقاطعة على مبيعاتها، مشيرة إلى أن تجارتها في الشرق الأوسط كانت الأكثر تضرّراً، وتراجعت مبيعات الشركة خلال الربع الأول من العام إلى أدنى مستوياتها، منذ ما يقرب من أربع سنوات، وانخفضت أسهمها بنحو 4% بعد الإعلان عن نتائج المبيعات، واعترف رئيس الشركة بأنه ما دامت الحرب مستمرة في غزّة "لا نتوقع أن نرى أي تحسّن كبير في هذه الأسواق".
ما "ماكدونالد" إلا نموذج من نماذج الشركات التي أوجعتها حملة المقاطعة، التي يجب أن تتحوّل إلى نهج دائم في سلوكنا، وألا تكون مرهونة فقط باستمرار الحرب الحالية على غزّة، خاصة مع توفرالبدائل، وفي مقدمتها المنتوجات الوطنية في كل بلد.