لحظة عروبية وليست فرحاً عربياً عابراً
رأى من تابع مونديال قطر أن روحاً جديدة عادت لتدبّ في أوصال المشجّعين العرب، سواء الذين كانوا في الملاعب، أم في ساحات مدن عربية ومقاهيها والقاعات التي نقلت المباريات. والإنجاز هو كلمة السر التي تقف خلف ظهور هذه الروح، التي اتضحت معالمها منذ بداية المنافسات مع رفع أعلام الدول العربية المشاركة في كل العواصم العربية، ليتحَّد الجميع في المراحل النهائية على تشجيع الفريق المغربي، ورفع الأعلام المغربية، في محاولة للقول إننا نحن الشعوب العربية ما زلنا هنا، ونستطيع أن نجد سُبلاً للتلاقي، وربما للفعل. وكان يمكن لهذه الممارسة أن تمضي وتُنسى كأي لحظة فرحٍ عابرٍ، غير أن رفع العلم الفلسطيني جاء ليؤكّد الروح الاحتجاجية التي تضجّ بها الرسالة التي وجهها كل من شارك في هذا المشهد.
واللافت أن الجميع فوجئوا بما رأوه من تضامن عربي وتفاعل مشترك وحماس وتشجيع للفرق العربية ومن فرحٍ بانتصاراتها، ما يؤكّد أن الشعب العربي في الدول العربية كان بحاجة إلى مناسبة كبيرة ليظهر الكوامن التي لم تستطع سنوات التفرقة، والصراعات والحساسيات القُطرية والخلافات الحدودية، والانقسامات السياسية بين الزعماء والأنظمة، أن تزيله من النفوس والوجدان. كان هذا الشعب بحاجة إلى انتصارٍ ما لكي يُظهر روح التضامن التي ما زالت باقية في دواخله، ويوجهها الوجهة الصحيحة. وقد تحقق ذلك مع نجاح دولة عربية في تنظيم البطولة، وهو الأمر الذي جعلهم يتخلصون من كل الشكوك التي أثارتها حملات التشويه التي خرجت بها وسائل إعلام غربية، ووسائل إعلام عربية أيضاً، علاوة على دوائر سياسية دولية وعربية، عن قدرة دولة قطر على إنجاح الفعالية، ليتحوّل الشك إلى فخر بالنجاح الذي أنجزته الدولة المضيفة. كما تحقق مع فوز الفرق العربية، تونس والسعودية، ليتعزّز أكثر ويتضح ويأخذ الشكل الذي أخذه حين ساد في كل الدول العربية مع الانتصارات التي حقّقها الفريق المغربي ووصوله إلى الدور نصف النهائي.
رفع العلم الفلسطيني فعل احتجاجي في وجه الأنظمة التي طبّعت مع دولة الاحتلال
غير أن الذي يمكن تأكيده أن تلك الروح العروبية الكامنة أثبتت قدرتها على الظهور مجدّداً، بعد سنوات من القمع والتضييق والمصادرة، خصوصاً ذلك الشكل الاحتجاجي الذي جاء رفع العلم الفلسطيني ليؤكّده. هذه الروح التي حاولت الثورات المضادّة التي خرجت في بلدان الربيع العربي أن تخمدها بكل السبل، الليّنة منها والقاسية، عبر الترغيب حيناً وأحياناً كثيرة عبر الترهيب الذي أخذ شكل حروبٍ تدميرية، ما تزال تبعاتها تظهر وتؤثر في واقع هذه الدول وفي نفوس أبناء الشعب فيها، بعد أن استطاعت التأثير في الواقع السياسي والاقتصادي، وكذلك الأمني. تلك الروح التي سلم حكام كثيرون أنها قد خمدت.
ولا يمكننا إدراك الرمزية الكبيرة التي يمثلها رفع المشجّعين واللاعبين العلم الفلسطيني في ملاعب قطر خلال المباريات، وفي شوارع الدوحة وساحاتها، وفي الدول العربية في أثناء مشاهدة المباريات، والرسالة الاحتجاجية التي أراد الجميع توجيهها بتلحفهم به، إلا حين نتذكّر مشهد مسارعة عناصر الأمن المصري السريين إلى اعتقال الشاب عز منير خضر، لمجرّد أنه رفع العلم الفلسطيني خلال مباراة بلاده مع جنوب أفريقيا في استاد القاهرة، في نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، وعرضه على نيابة أمن الدولة بسبب هذا الفعل. وبسبب غرابة المشهد، واستغراب جماهير المشجّعين هذا العمل، وتساؤلهم بشأن مدى تشكيل رفع العلم الفلسطيني خطورةً على النظام المصري، ردّد المشجعون هتاف "بالروح بالدم نفديك يا فلسطين" في رد فعل احتجاجي غير مباشر على سياسات القمع التي لا يملك النظام المصري سواها في الاستجابة لمطالب المصريين. وهذه الرمزية تُختصر بحقيقة أن رفع العلم هو فعل احتجاجي في وجه الأنظمة التي طبّعت مع دولة الاحتلال الإسرائيلي. كما أنه، في الوقت عينه، احتجاج على استبداد الأنظمة العربية جميعها وسياساتها، التي أوقفت تقدم المجتمعات العربية بسبب إخفاقها السياسي المتمثل في الفشل في بناء دولة حديثة، وإخفاقها الاقتصادي المتمثل في الفشل في بناء قاعدة صناعية وزراعية قوية، وقاعدة علمية وتكنولوجية، ما يساهم في القطع مع تاريخٍ من التبعية للغرب الرأسمالي، ما سبّب تخلف هذه المجتمعات وتراجعها الاقتصادي والعلمي والثقافي، والذي بدوره أدّى إلى تفقير الشعوب ومصادرة حقوقها بالحرية والمساواة والعيش الكريم.
يبدو أن التلاقي العربي والتكامل ما زال واحداً من الحلول التي تحتاجها دول المنطقة لكي تخرج من الهامش الذي وضعت نفسها فيه
لذلك، تذكَّر كثيرون، بعد هذا المشهد التضامني اللافت، التضامن الشعبي العربي الذي ظهر إثر تفجر ثورات الربيع العربي سنة 2010، في تونس، وتعزّز مع انتصار الثورة التونسية بداية 2011، وتبعها نجاح ثورة يناير في مصر، وما تبعه من تفجّر ثورات مشابهة في بلدان أخرى. وكما طرحت يومها تلك الثورات السؤال حول هوية الدولة القُطرية، والهوية القومية العربية الحديثة البعيدة عن الهوية القومية التي طرحتها أحزاب قومية في ستينيات القرن الماضي، والتي أدّى احتكارها السلطة والاستفراد بها إلى فشلها في بناء الدولة القومية الحديثة المتصالحة مع مسألة الديمقراطية وقضية الحقوق والحريات. وهو الفشل الذي تسبّب فيما بعد في ظهور الخطاب الذي يدعو إلى العودة إلى الهويات الطائفية والإثنية والقبلية والعشائرية والمناطقية وغيرها، والتي تحيِّد العقل وتأتي بأسلوب إنتاج يشبهها ويعاكس التطور والتقدّم. وكما كان ذلك سنة 2011، كذلك يدل هذا الفعل التضامني الجديد، وهذه اللحظة العروبية، على أن تلك الأسئلة لا تزال معلقة، وأن الشعب العربي، وخصوصاً الجيل الجديد منه، ورث في دمه هذه الروح التي لم تمتْ مع فراق حمَلَتِها الأوائل الحياة، بسبب استمرار البيئات ذاتها التي كانت يوم ظهرت تلك الروح، البيئات التي تحتاج إلى الفصل معها، عاجلاً أم آجلاً.
وكما يحمل هذا الفعل التضامني الجديد، وهذه الروح العروبية التي توثبت من جديد في دواخلها أملاً في حدوث موجة وعي جديدة تأتي بالتغيير المنتظر، كذلك تحمل معها خطورة أن تلاقيها الأنظمة العربية بمحاولات الوأد التي لاقت فيها موجة الربيع العربي قبل عقد. عندها تكون قد خسرت فرصة استغلالها للبحث في مشروع حداثي للتقدّم والتطور، وللتلاقي العربي والتكامل، مهما كان شكله، والذي يبدو أنه ما زال واحداً من الحلول التي تحتاجها دول المنطقة لكي تخرج من الهامش الذي وضعت نفسها فيه، وتواجه به التحديات التي تظهر أمامها كل يوم.