لعبة حافّة الهاوية في أوكرانيا
فيما يستمرّ التوتر والحشد على الحدود بين روسيا وأوكرانيا، وتتقلب الاحتمالات بين الحرب والدبلوماسية بشأن الأزمة هناك، يراقب العالم باهتمام بالغ لعبة "حافّة هاوية" بين موسكو وواشنطن، تكاد تكون غير مسبوقة منذ أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962. والواقع أنّ هناك نقاط تماثل بين أزمتي أوكرانيا وتلك الصواريخ أكثر مما توجد مشتركات بينها وبين أزمة إقليم السوديت الذي انتزعته ألمانيا من تشيكوسلوفاكيا بموجب اتفاق ميونخ (1938)، ويتزايد الحديث عنه راهناً في أوروبا، باعتباره رمزاً لرضوخ الديمقراطيات الغربية لابتزاز هتلر عشية الحرب العالمية الثانية.
نتجت أزمة الصواريخ الكوبية من محاولة الاتحاد السوفييتي اختراق منطقة نفوذ أميركية، ونصب صواريخ نووية قصيرة المدى قبالة سواحلها. ردّت الولايات المتحدة بفرض حصار على كوبا لمنع وصول السفن السوفييتية التي تحمل صواريخ إليها. وبعد أزمةٍ حبست أنفاس العالم 13 يوماً توصل الطرفان إلى اتفاق عادت بموجبه السفن السوفييتية أدراجها، في مقابل سحب واشنطن صواريخ "جوبيتر" من تركيا.
تحمل أزمة أوكرانيا بعضاً من سمات أزمة كوبا، مع فرق أنّها تنشب، هذه المرّة، على أبواب موسكو، في حين أنّها تبعد عن واشنطن آلاف الأميال، ولا تحظى من ثمّ بأهميةٍ فعليةٍ لها. والواقع أنّ أوروبا، وليست أوكرانيا فقط، لم تعد تمثل أهمية حقيقية بالنسبة إلى الولايات المتحدة التي بات تركيزها منذ مطلع الألفية منصبّاً على شرق آسيا (الصين)، وعلى منطقة الخليج التي تحصل الصين منها على إمدادات الطاقة. في المقابل، تدرك واشنطن أهمية أوكرانيا لروسيا التي لن تتراجع، على ما يبدو، قبل إبعاد شبح حلف الناتو عن حدودها. وكانت موسكو تراقب، منذ انتهاء الحرب الباردة، موجات توسع الحلف تجاهها. ضمّت موجة التوسع الأولى عام 1999 بولندا والمجر وجمهورية التشيك، وضمت الثانية عام 2004 دول البلطيق الثلاث إضافة الى رومانيا وبلغاريا، لكنّ موسكو رفضت السماح بالتوسع الثالث الذي أقرّه "الناتو" في قمة بوخارست في إبريل/ نيسان عام 2008، ورحب فيه بطلب جورجيا وأوكرانيا الانضمام إليه. إذ غزت موسكو، بعد أربعة أشهر فقط، جورجيا، ودبّرت عودة حلفائها إلى السلطة في أوكرانيا في انتخابات عام 2010، بعدما خسرتها في "الثورة البرتقالية" عام 2004. لكنّ الغرب أعاد حلفاءه إلى السلطة عام 2014، فردّت روسيا بضم القرم، وسلخ إقليم دونباس عن أوكرانيا في الشرق.
تشير الأزمة الحالية إلى أنّ روسيا تستخدم دبلوماسية المدافع (gunboat diplomacy) للحصول على تعهدات بعدم ضمّ أوكرانيا إلى "الناتو"، لكنّ الولايات المتحدة ترفض تقديم أيّ تعهداتٍ بهذا الشأن، وتشجّع أوكرانيا على فعل ذلك أيضاً، على الرغم من أنّ الأخيرة لا تمثل أي أهمية بالنسبة إليها، بدليل إعلان واشنطن أنّها لن تتدخل عسكرياً للدفاع عنها. وتتمحور استراتيجية واشنطن حالياً حول "ردع" موسكو عن مهاجمة أوكرانيا، عبر التهديد بفرض عقوباتٍ قاسيةٍ بحقها، وتزويد أوكرانيا بأسلحةٍ متنوعةٍ لمواجهة أيّ هجوم روسي محتمل. لكنّ محاولات واشنطن إثارة حالة من الهلع في أوكرانيا وعموم أوروبا بشأن هجوم روسي وشيك تثير أسئلة عديدة عن حقيقة نيّات إدارة بايدن وأهدافها في الأزمة. وتذهب قراءاتٌ إلى أنّ هناك محاولة أميركية واضحة لدفع روسيا إلى غزو أوكرانيا. لكن لماذا تفعل ذلك؟ عندها، يمكن واشنطن أن تحقق عدة أهداف بضربة واحدة؛ أولاً يمكنها تحويل أوكرانيا إلى مستنقع لاستنزاف روسيا، وربما دفعها إلى الانهيار، كما فعلت في أفغانستان التي كانت سبباً في انهيار الاتحاد السوفييتي قبل 30 عاماً. هذا يعني، ثانياً، إخراج روسيا من مثلث الأقطاب العالمي، وحرمان الصين حليفاً محتملاً في أيّ مواجهة مقبلة مع الولايات المتحدة. وثالثاً، توجيه ضربة قاصمة إلى قطاع الطاقة الروسي وإخراجه، أو على الأقل تقليص حصته، في سوق الطاقة الأوروبي، وتعزيز حضور الغاز الأميركي محله، مع تحول أميركا هذا العام إلى أكبر منتج للغاز المسال في العالم.
يبدو الرئيس الروسي بوتين واعياً لهذه المخاطر، وهو الذي شهد انهيار الاتحاد السوفييتي بسبب أفغانستان وانهيار أسعار النفط في ثمانينيات القرن الماضي. لهذا يبدو متردّداً، على الرغم من أنّه حشد ما يكفي من القوة، لغزو أوكرانيا. لكن، إلى متى يستطيع مقاومة إغراء الغزو إذا فشل في الحصول على ما يكفي لتبرير التراجع، وحفظ ماء وجهه؟