لغة المماحكة و"المجاكرة"
يمكننا أن نسمّي الثقافة التي شاعت على وسائل التواصل الاجتماعي في السنوات الأخيرة ثقافة المماحكة والأخذ والرد، أو كما يقول أهل حلب: المجاقَمة... وينطبق عليها المثل الشعبي "مفتاح البطن لقمة، ومفتاح الشرّ كلمة"، يعني، يا سيدي؛ أنا أنقض كلامك، وأسخّف رأيك، بغض النظر عن محتواه، وأنت تغضب، وتهاجمني، فأردّ عليك بقوة، محاولاً أن أمسح بك وبسلالتك الأرض.. وأحياناً يتدخل ناشطون من أقاربي، وآخرون من أقاربك، فتعلق مشاجرة جماعية (افتراضية) تذكّرنا بالمشاجرات الجماعية الواقعية التي تمتلئ على إثرها أقسام الإسعاف في المستشفيات بالمصابين، وتكتظ غرف التحقيق في مراكز البوليس بالموقوفين.
على سبيل المثال؛ أنت تكتب منشوراً، أو تغريدةً، معتقداً أنك تقدّم للناس فكرة صائبة، ونافعة. لكن، قلما يردّ عليك أحدٌ ضمن حدود الفكرة ذاتها، يوافق عليها، أو يرفضها، أو يناقش تفاصيلها، فإذا فعل أحدُهم ذلك تفرح، وتتمنّى لو تذهب إليه، وتأخذ معه صورة تذكارية تنشرها على صفحاتك، وبدلاً من قول الفرزدق: "هذا الذي تعرفُ البطحاءُ وطأتَه" تكتب، مشيراً إلى صورته: هذا الذي علّق على الموضوع المطروح ذاته، ولم يهاجم كاتبَه!
من تجربة محسوبكم: كتبتُ منشوراً اقترحت فيه على مَن يرى أناساً مسلحين ذاهبين ليحرّروا بلدهم من مستعمر، أو من حاكم ديكتاتوري، أن يستوقفهم ويسألهم: ماذا ستفعلون بعد أن تحرّروها؟ وما هو مشروعكم؟ وعينك يا صديقي لا ترى إلا النور، انفتحت عليّ، كما يقال، أبوابُ جهنم... أحدهم سخر مني، وكتب لي: بما أنّك من مجاهدي "فيسبوك" سأوصي المجاهدين أن يحرّروا بلاد الشام ويسلموها لحضرتك لتحكمها على نهج "بني عَلْمَان". وقرّر آخر أن يفرض عقوبةً جماعيةً على كلّ النخب الثقافية والسياسية العربية، نكاية بي، فاستهزأ بتلك النخب زاعماً أنّها تؤيد الحكام الديكتاتوريين، وتسوّغ لهم قتل شعوبهم. وكتب ثالث، وهو من دولة شقيقة، أنّ كلامي هذا يصبّ في مصلحة بشار الأسد وخامنئي وعبد الفتاح السيسي... وتطورت حالة "المجاكرة" مع رابع؛ فقال إنّ دواعش اليسار لا يقلون خطراً عن الدواعش الفعليين الذين يحرقون الأحياء ويطيّرون الرؤوس، بل إنهم أسوأ، وأدقّ رقبة... وقرّر خامس أنّه ليس من حقي، أنا بالذات، أن أبدي رأيي بأي شيء على الإطلاق، فكتب لي: ألستَ أنت خطيب بَهدلة الذي كنتَ عضواً في الاعتلاف؟
إنّ شعار "الشعب السوري ما بينذلّ" الذي ردده بعض السوريين في مظاهرة "الحَريقة" بدمشق، أوائل سنة 2011، يبدو جميلاً فيما لو أخذناه على محمل التمنّي، أو الترفع، لكن عندما نُخضعه للعقل والمنطق نجد أنّه غير صحيح، مع الأسف، فالشعب السوري انذلّ، وشبع ذلاً، ومَن شاء أن يكتب ويؤرّخ يستطيع أن يؤلف في ذلّ الشعب السوري مجلدات؛ عن الـ 400 سنة تحت حكم العثمانيين، تلاها الانتدابُ الفرنسي، ثم الانقلابات العسكرية؛ المارشات، والبلاغ رقم واحد، والضرب بيد من حديد.. وصعود التيارات القومية الخطابية، والوحدة، وتقديس الحاكم الأوحد، فثورة آذار (مِن قاسيونَ أطلّ يا وطني)... وصولاً إلى ثالثة الأثافي التي تمثلت بوثوب حافظ الأسد إلى السلطة، مع مشروعه الاستبدادي التوريثي.
تعال إلى الشعار الآخر الذي يكتبه السوريون عندما يقرأون أنّ سوريين جُنّدوا للقتال مع قوات دولة أخرى، مثل روسيا وتركيا "الشعب السوري مرفوع الجبين، لا يمكن تحويله إلى مرتزقة"... والحقيقة أن تسمية مرتزقة ليست دقيقة، وتنطوي على كثير من التوبيخ، لكنّك لو عدت قليلاً إلى الخلف، لرأيت معظم السياسيين والشخصيات العامة التي ساهمت في حكم سورية منذ العشرينات كانوا عُثمانيين، بمعنى من المعاني. وبعد 1918 أعلن بعضهم عداءه الأتراك، وإذا درستَ تاريخ الضباط الكبار الذين شاركوا في الانقلابات العسكرية، بدءاً من سنة 1949، ستجد أنّهم كانوا متطوعين في "جيش الشرق" التابع لدولة الاحتلال، فرنسا... نعم سيدي، فرنسا ما غيرها!