للقصص بقية...
"للقصة بقية".. عنوان برنامج تقدّمه قناة الجزيرة منذ سنوات، من دون أن نعرف بقية القصة.
لطالما فكّرتُ ببقية القصة، لا أعني القصة التي تقدّمها "الجزيرة" في برنامجها الأسبوعي في كل مرّة، بل أي قصة نعيشها أو نعرفها أو نسمعها، فكل القصص تبدو مبتورة، حتى وإن انتهت في شكلها الأولي، أو توهّمنا أنها انتهت عندما نكمل قراءتها في كتابٍ أو نكمل مشاهدتها في فيلم أو مسلسلٍ أو حتى نسمّيها من الآخرين كحكاية حقيقية، وربما نعيشها فعلا بتفاصيلها الدقيقة حتى نقف لنقول لأنفسنا أنها انتهت الآن، لأننا قرّرنا أن نغادرها عند مفصلٍ ما من مفاصلها المتتالية.
القصص لا تنتهي، كل القصص لا تنتهي أبدا، بل تستمرّ ما استمرّت الحياة في الأحداث والشخصيات، ولذلك دائما تكون للقصة بقية منتظرة، يأتي بعض هذه البقية ذات يوم، وقد لا يأتي أبدا، فنبقى معلقين مشدوهين بها، كلما فكرنا فيها لاحقا بحثا عن نهايةٍ حقيقيةٍ تليق بها.
صحيحٌ أن برنامج "الجزيرة" يتناول قصصا إخبارية، يحاول أن يسبر أغوارها بالمتابعة والتحليل والتفسير والبحث في ما وراء الخبر، إلا أننا غالبا لا نملك هذا الترف، في كل ما نسمعه أو نعيشه من قصص حقيقية وحتى غير حقيقية.
تنتهي القصص عادة على الورق بخاتمة يختارها الروائي أو الراوي ، وتنتهي على الشاشة بمشهد النهاية، كما يرسمه مخرج الفيلم، لكن هناك الكثير مما يحدُث بعد أن يسدل الستار أو نقلب الغلاف الأخير أو تظهر على الشاشة كلمة النهاية.
أفكّر دائما مثلا بما يحدث لأبطال الروايات والشخصيات الأخرى فيها، بعد أن يتركها المؤلف تصارع أقدارها بعيدا عن الكلمات والأوراق. أفكّر بأبطال الأفلام وهم يغيّرون أزياءهم وملامحهم استعدادا لأداء أدوار أخرى، غير آبهين غالبا بالشخصيات التي تركوها وراءهم في فضاء العدم. أفكّر بذلك العدم الأبيض، أو الأسود؟!، الذي تنتهي إليه تلك الشخصية في بقيتها غير المروّية أو المعلنة. أفكّر بمصائرهم الخفية واللانهائية بعيدا عن الكتابة والقراءة، وأحاول أن أقتفي آثار أقدامهم المجهولة في الفراغات.
يستلّ المؤلفون والكتاب عادة أبطال حكاياتهم وشخصيات رواياتهم من الحياة، يستنسخونها، كما هي أو يضيفون إليها ويحذفون منها ما يريدون، أو يعيدون رسمها وفقا لما يروْنه مناسبا للحكايات الجديدة، ويسيرون معها بأفكارهم وكلماتهم طوال صفحات وصفحات، حتى يشعروا بالتعب أو بالملل أو يستنفدوا الشغف فيها، فيقرّروا إنهاءها بنهاياتٍ مغلقة أو مفتوحة، ويقدّموها لقرّائها باعتبارها رواياتٍ مكتملة أو حكايات منتهية، وقد يتلقاها المخرجون وصنّاع الأفلام والمسلسلات ليعيدوا قراءتها وكتابتها، ثم يصوّروها مشهدا مشهدا، بما يرونها كافيةً لتكتمل الحكايات وتنتهي الروايات.. تموت بعض الشخصيات في خضم العمل، فنرتاح من همّ ملاحقتها والبحث عن مصيرها بعيدا عن تصوّرات المؤلفين والمخرجين، لكن من يبقى كثيرون. وهم يبقون غالبا لإكمال حيواتهم هناك.. في عدم الكتابة، ومجهول المعرفة. يبقون ليعيشوا الحياة كما ينبغي بعيدا عن تلصّص الكتاب وصنّاع الأفلام قريبا عن الحقيقة الخالصة. وهم يعيشون من دون أن يحملوا همّ المشهد الأخير، ولا التفكير في صناعة جملٍ تليق كخواتيم لروايات ناجحة. في عدم الروايات تعيش الحكايات بعفويتها وصياغاتها الحرّة فلا تدقيق ولا تصحيح ولا خوف من انتقاد ولا انتظار لرأي قارئ!
وربما لهذا تبقى الحكايات ناقصةً إلى الأبد، حتى وإن اجتهد أصحابها في بناء التسلسل المنطقي لها عبر الكلمات ورسم الشخصيات وفقا لتفاصيل الحبكة القصصية. لا يمكن لأي حكايةٍ أن تنتهي، ولا ينبغي لنا، إذن، أن ننتظر البقية. وبدلا من هذا كله، علينا أن نفكّر بالنهايات الخاصة لتلك القصص، وفق ما يناسب كلا منا على حدة.