لماذا تتوالد الدكتاتوريات في العالم العربي
أسئلة كثيرة تثار بشأن الواقع السياسي العربي الذي يتسم في عمومه بطغيان الحالة الاستبدادية بشكلٍ لا نظير له في أي منطقةٍ أخرى، على الرغم من تراكم التضحيات العالية والمطالبات المتكرّرة بالحرية والكرامة: لماذا تتناسل الدكتاتوريات وآفات الحكم الفردي المطلق في هذه الرقعة من العالم، ما أن يغيب دكتاتور حتى يحلّ محلّه آخر أكثر شراسة وبطشاً؟ ولماذا تبدو المنطقة موبوءة بهذا الداء العضال الذي ينهش الجسم السياسي العربي؟ ولمَ تبدو المنطقة عصيةً على التغيير ومعاكسة لاتجاه التحرر؟
يتبيّن عند التحقيق أنّ الشعوب العربية ليست أقل طلباً للحرية والحكم الديمقراطي من غيرها، بل لعلّها أكثر تضحيات وأشد حرصاً من غيرها على نحو ما يبيّن عدد المساجين والمشرّدين لدواع سياسية، وما أكّدته الثورات العربية التي رفعت مطالب الحرية والعدالة، ونادت بتغيير أنظمة الجور والاستبداد.
ارتفع سقف الطموحات السياسية العربية بالتخلص من الإرث الاستبدادي، بعد اندلاع الثورات العربية التي انطلقت من تونس بداية 2011، ومنها انتقلت إلى بلدان عربية أخرى، حاملة الشعارات والمطالب نفسها تقريبا، مثل مصر وليبيا وسورية واليمن، لكن من يتأمل المشهد العربي اليوم يخلُص إلى نتيجة مفادها أن الأمور لم تراوح مكانها فحسب، بل هي ارتدّت إلى حالة أسوأ مما كانت عليه قبل الثورات، وبسقوط آخر جدران الديمقراطية التونسية الناشئة، تحت ضربات شعبوية قيس سعيّد، نستطيع القول إن قوس الدكتاتورية قد اكتمل في هذه الرقعة من العالم، من دون أن ينفي ذلك وجود مقاومة عنيدة لهذه الموجة الانقلابية العاتية في أكثر من موقع عربي.
الشعوب العربية ليست أقل طلباً للحرية والحكم الديمقراطي من غيرها
بعد سقوط حسني مبارك تحت ضربات ثورة 25 يناير/ كانون الثاني 2011 في مصر، اضطر الجيش إلى تسليم زمام الأمور لحكم مدني ديمقراطي مدة لا تزيد عن السنة والنصف سنة، لكنّه بقي يمسك الحبل السرّي للسلطة، ويتحكم في خيوط اللعبة من وراء حجاب، إلى أن قفز عسكري مغامر زاد في منسوب البطش والدكتاتورية، كمّاً وكيفاً، مقارنة بالحكام السابقين الذين تداولوا على مصر. وفي ليبيا تهاوى نظام معمّر القذافي، فعاشت من بعده قدراً كبيراً من الانفتاح السياسي مدة قصيرة، قبل أن تنزلق باتجاه حربٍ أهليةٍ صعد معها نجم اللواء خليفة حفتر من شرق ليبيا، وهو بمثابة طبعة كربونية مستنسخة من سيسي مصر. ثورة الشباب اليمني التي فتحت آمالاً عريضة، دجّنتها ما سميت المبادرة الخليجية، قبل أن ينزلق البلد نحو حرب أهلية مدمرة ما زال يعيش أتونها واختلطت بالقبيلة والطائفة. في سورية، تحولت الثورة إلى احتراب داخلي امتزجت فيه التدخلات الدولية والإقليمية بالنزعات الطائفية والإثنية. وأخيراً تونس التي تقدّمت خطوات ملموسة على صعيد الديمقراطية والحياة الدستورية ما يزيد عن عقد، ترتكس إلى هوّة سحيقة على وقع شعبوية قيس سعيّد الذي بات يمسك كلّ أدوات السلطة بين يديه، بلا دستور ولا برلمان ولا مؤسسات رقابية، وكأنّنا إزاء قذّافي جديد بصدد التخلّق في المجال المغاربي.
طبعاً هناك باحثون وسياسيون غربيون استناداً إلى ميراث استشراقي مديد يستعذبون تفسير هذا الاستثناء العربي بوجود ثقافة عامة في المنطقة، مانعة للتحوّل الديمقراطي، ومغذية للحكم الاستبدادي الفردي. والحقيقة أنّ هذه المقولة لا تصمد كثيراً أمام المعطيات الصلبة، سواء من الناحية الواقعية أم من الزاوية النظرية. لا توجد ثقافة سياسية نمطية موحّدة، بل الثقافة الواحدة هي ثقافات متعدّدة وتعبيرات متنوعة. ويمكن أن تستخرج منها الشيء ونقيضه، كما أنّ بلاداً إسلامية كثيرة تنتسب إلى الدين والثقافة نفسيهما تقدّمت خطوات مهمة على صعيدي الديمقراطية والتخلص من أثقال الحكم الفردي والدكتاتوري بدرجات متفاوتة، مثل إندونيسيا وماليزيا وتركيا والسنغال ونيجيريا وغيرها، فلماذا يبدو العالم العربي استثناءً خاصاً، وحالةً عصيةً على التغيير؟
إذا أردنا أن نفهم المشهد بالجدّية المطلوبة، فسبيلنا إلى ذلك تمحيص المعطيات الجيواستراتيجية والتاريخ السياسي اللذين حكما هذه المنطقة خلال القرن الأخير على الأقل، بدل الاتكاء على مقولات الثقافة والوعي والفكر.
اكتمل قوس الدكتاتورية في هذه الرقعة من العالم، من دون أن ينفي ذلك وجود مقاومة عنيدة لهذه الموجة الانقلابية العاتية في أكثر من موقع عربي
أول هذه العناصر التي يجب التوقف عندها هي تركيبة الدول العربية نفسها التي تتسم، في عمومها، بالانقسام والهشاشة، فهذه من بين العوامل الأساسية المغذّية للاستبداد والصانعة للأزمات، مقارنة حتى بدول الجوار الإسلامي، مثل تركيا وإيران. ولدت الدول العربية، خصوصا في المشرق العربي، من رحم الانقسامات السياسية والتمزّقات الاجتماعية الناتجة عن لعبة الأمم وحساباتها الخاصة بعد تفكّك الدولة العثمانية منذ نهاية الحرب العالمية الأولى تقريبا. لم يكن تكوين الدولة العربية، خصوصا في المشرق العربي، نتاج تدافع القوى الداخلية وتوازناتها الذاتية، كما حصل، في الغالب، في تشكل الكيانات السياسية الحديثة، بقدر ما كان الأمر منتج حسابات القوى الدولية التي تقاطعت أحيانا، وتعارضت أخرى، مع رهانات القوى الداخلية ذات التوجهات الانقسامية من مشائخ وأعيان ووجهاء. كلنا يعرف قصة الشريف حسين ورغبته في إقامة دولة عربية كبرى تضم الحجاز وبلاد الشام، فانتهى به المطاف منفيا في قبرص، بعد تفصيل كيان جديد شرق الأردن، وبداية تخلق المشروع الصهيوني في المنطقة.
نخلص من ذلك إلى القول إن الدولة العربية ولدت مأزومة وقلقة من أصلها بسبب تكويناتها الجينية المشوهة، وهي لا تفرز غير الأزمات والانفجارات الداخلية والخارجية. هذا الأمر يجعل عملية التغيير عسيرة ومعقدة، وتصطدم، في أحيانٍ كثيرة، بمعيقات جيواستراتيجية ومكونات إثنية وطائفية قاتلة، ومن ذلك أنّ الإصرار على تغيير النظام وإصلاحه كثيرا ما يهدّد كيان الدولة نفسها بحكم حالة التداخل التي حصلت بين النظام والطائفة أو القبيلة أو الأسرة (أو كلها مجتمعة) في أحيان كثيرة، كما هو الأمر في العراق وسورية، وإلى حد ما في اليمن ولبنان، وحتى بعض بلاد الخليج.
الثورة المضادّة تشتغل ببعد إقليمي ودولي واسع النطاق، ولا يمكن مواجهتها أو كسرها إلّا بمشروع إقليمي مضاد
طبعا هذه الحالة متفاوتة بين قطر عربي وآخر، وربما تبدو مصر الحديثة استثناءً من بعض الوجوه، بحكم استقرار هويتها السياسية نسبيا، ثم ثقلها السكاني وأدوارها التاريخية. ولكنها أنهكت بالحروب وثقل الأزمات الاقتصادية وشدّة القبضة الخارجية مع وجود إسرائيل إلى جوارها. كل هذه المعطيات وفرت أرضية لتأبيد حكم العسكر وهيمنتهم على كلّ شيء، وبذلك تحولت مصر نفسها عنصراً مغذّياً للأزمات والقلاقل، بدل أن تكون مصدر علاج للوضع العربي. وربما يبدو المغرب العربي أفضل من بعض الوجوه، ولكن ثقل النفوذ الفرنسي المتوجّس من التوجهات الديمقراطية، ثم الانقسام الجزائري المغربي والأزمة الليبية، زادا في تكبيل المنطقة وإنهاكها.
المعطى الثاني، والذي لا يقل خطورة عن الأول، سطوة البترول وتنامي أدواره في المجال العربي، وما هو أوسع من ذلك، فبدل أن توظف هذه الثروة الطبيعية التي حبا الله بها أمة العرب في إصلاح أوضاعهم وإشاعة معاني التضامن بينهم، استخدم المال النفطي لإفساد المشهد السياسي العربي، وتلويثه على امتداد عقود متتالية. في ثمانينيات القرن الماضي، وظف المال الخليجي لتأجيج الصراع العراقي الإيراني، وتسميم الأجواء السياسية والمذهبية في عموم المنطقة، واستنزفت كثيرا من مواردها وطاقاتها في هذا الصراع العبثي، ثم استخدم هذا المال النفطي في تخريب العراق نفسه وإنهاكه بعد الخطأ القاتل الذي ارتكبه صدّام حسين بغزو الكويت، فتحوّل المحور الخليجي من دعم صدّام وتغذيته بالمال والسلاح إلى الانقلاب عليه، ومعاضدة احتلال أميركي دمر البلد وأنهك المنطقة برمتها.
وبعد ثورات الربيع العربي، تشكّلت نواة صلبة بقيادة دول الخليج، وضعت على رأس أولوياتها تلويث ثورات الربيع العربي ثم إسقاطها واحدة بعد الأخرى، عبر تفجير كل الصراعات وإثارة التناقضات الداخلية في هذه البلاد، مع استخدام الإعلام وكل قوى الثورة المضادة. وقد ازدادت سطوة هذا المحور أكثر مع حالة الفراغ السياسي الناتج عن تتالي الانسحابات الأميركية الفوضوية من المنطقة، بعد هزيمتي العراق وأفغانستان منذ بداية حقبة أوباما سنة 2008. من هنا لا يمكن فهم ما جرى من ارتدادات في مصر وسورية واليمن وليبيا وتونس بمعزل عن الدور التخريبي الذي قام وما زال يقوم به النفط الخليجي، بقيادة السعودية والإمارات. وليس سرّا أن هذا المحور الخليجي قد رأى في الثورات العربية بمثابة كارثةٍ حلت به، واعتبر وجود حالة سياسية ديمقراطية تتسم بالنقاش الحر والمفتوح وانتخاب الحكام عبر صناديق الاقتراع بمثابة تهديدٍ وجودي "لأمنه القومي" الفردي والجماعي. وما يزيد في مخاوف حكام الخليج أكثر، حينما تأخذ الحالة الديمقراطية بعداً إسلامياً اصلاحياً، من شأنه أن يهزّ شرعيتها الثيوقراطية للإسلام، والقائمة على مقولة الطاعة المطلقة لولي الأمر بلا انتقادٍ ولا مراقبة ولا محاسبة.
الدولة العربية ولدت مأزومة وقلقة من أصلها بسبب تكويناتها الجينية المشوهة، وهي لا تفرز غير الأزمات والانفجارات الداخلية والخارجية
العامل الثالث المؤثر في أوضاع المنطقة واتجاهاتها العامة، وخصوصا في المشرق العربي، المعطى الإسرائيلي المؤثر والمتوجس من أي تغييرات ديمقراطية عربية، خشية أن ترافقها بالضرورة استفاقة شعبية، وهو دور بالغ التأثير في السياسات الدولية ورسم خياراتها، إلى الحد الذي يسمح بالقول إنّ السياسات الغربية، خصوصاً الأميركية منها في منطقتنا، تعمل كلما جاءت الانتخابات بمولود غير مرغوب فيه، على إجهاض الحمل، ومعه قطع أنفاس الأم وهي على فراش الولادة.
العامل الأخير والحاسم في إعاقة العملية الديمقراطية في المنطقة هو الانقسام الحاصل داخل النخب، وما يتبع ذلك من مخاوف وأوهام متبادلة بينها، فينتهي الأمر ببعض مكونات هذه النخب طمعاً وخوفاً إلى الارتماء في أحضان أنظمة الاستبداد والقهر، بزعم حماية المكتسبات المدنية التي لم تبقَ منها هذه الأنظمة شيئاً يذكر. والكلّ يعرف أنّ العملية الديمقراطية لا يمكن أن تصمد في ظل حالة الاستقطاب السياسي والمجتمعي وغياب الحد الأدنى من التوافق.
الحقيقة، لا توجد حلول معجزة لهذا الوضع المأزقي الذي يتخبط فيه العالم العربي مشرقاً ومغرباً. لكن، يمكن التخفيف من حدّته على الأقل، وتحييد بعض عناصر الإعاقة، ولا يمكن أن نتقدّم على هذا الصعيد من دون وجود رؤية إصلاحية عربية متكاملة، ففي وقت كانت تغرق قوى التغيير في قضاياها الذاتية وصراعاتها المحلية على نحو ما بيّنت تجارب الثورات العربية، كانت هناك أجندة إقليمية مسلحة بالجيوش والاستخبارات ومستقوية بالمال والإعلام والخبراء تعمل بالليل والنهار على تعويق هذه الديمقراطيات والإجهاز عليها في المهد. من هنا، تأتى الحاجة لبلورة مشروع إصلاح ديمقراطي عابر لكيان الدولة القُطرية، لكن من دون تجاوزها أو القفز عليها، فالثورة المضادّة تشتغل ببعد إقليمي ودولي واسع النطاق، ولا يمكن مواجهتها أو كسرها إلّا بمشروع إقليمي مضاد.