لماذا تكذب الأنظمة بهذه البجاحة؟
يتردّد السؤال مرارا، ويحمل كثيرا من الألم والدهشة والغيظ والحنق؟ كيف يفعلونها؟ كيف يكذبون بهذه البجاحة؟ كيف يتناقضون بهذا الوضوح؟ كيف يكرّرون أكاذيبهم وتناقضاتهم؟ وكيف ينجحون؟ مثلا، غرقت مصر، بعد 3 يوليو 2013، في مستنقع من الأكاذيب، وصار من الممكن قول أي شيء، وكل شيء، ثورة يناير مؤامرة، ونشطاؤها عملاء، اليساريون المعارضون "إخوان"، والليبراليون "إخوان"، والعلمانيون "إخوان"، والملحدون "إخوان"،... إلخ. تبدو الاتهامات كوميدية وعبثية وغير قابلة للتصديق، كما أنها شديدة التناقض، فالاتهامات صرّح بها من سبق لهم التصريح بأن يناير ثورة عظيمة، وشبابها أعظم. وعلى الرغم من ذلك، واجهوا الشاشات مرة أخرى بمنتهى القوة والجرأة والأريحية، وقالوا بالعكس، وكرّروه، وقرّروه، عبر آلاف الخطابات. ومع الوقت تحول التكرار إلى اعتياد، والاعتياد إلى قبول، والقبول إلى تصديق، وبات من الصعب جدا إقناع الناس بالبديهيات!
تشير مقالة (دراسة) بعنوان "نموذج الدعاية الروسية.. خرطوم الأباطيل"، لكريستوفر بول وميريام ماثيوز، إلى هذه الظاهرة، وأسباب نجاحها. والمهم هنا الإشارة إلى تقاطعات التجربة المصرية، بعد انقلاب 2013، مع نظيرتها الروسية "الغلبانة". يعتمد النموذج الروسي بالأساس على "حجم" الدعاية، وليس نوعها. قل أي شيء، لكن قله كثيرا، لا تدع الناس يسمعون غيره، أو يشاهدون غيره، لا تسمح لصوت معارض أو مختلف أن يكون له أي وجود أو تأثير يذكر. انشر أكاذيبك بمنتهى القوة. في البداية يسخرون، كرّر. يسخرون، كرّر. يغضبون، كرّر. يشتبكون، كرّر. يصرخون، كرّر. يفقدون أعصابهم وسيطرتهم، كرّر. يُنهكون، كرّر. مع الإصرار، يتحول التكرار إلى اعتياد، والاعتياد إلى قبول، والقبول إلى تصديق. يصدُق سواد الناس، وقد يصدُق بعض خصومك سعيا، طبيعيا، إلى الاتساق مع الرائج. هنا يمكن أن نفهم لماذا تحوّل بعض مؤيدي "يناير" إلى "نظام السيسي"، من دون مصلحة.
تفيد دراسات علم النفس التجريبي، وفقا للدراسة، بأنه "مع بقاء الأوضاع على ما هي عليه، فإن الرسائل التي يتم تلقّيها بحجم أكبر، ومن مصادر متعدّدة، ستكون أشد إقناعًا. يستطيع الحجم الضخم استنفاد انتباه الجمهور الحاضر وسعة النطاق المتوفر له، كما يستطيع الحجم الضخم إغراق الرسائل المنافسة في طوفانٍ من الخلافات. تزيد القنوات المتعددة من فرص اطّلاع "الجماهير المستهدفة" على الرسالة، كما أن تلقّي رسالةٍ من طرق متعدّدة، ومن مصادر مختلفة، يزيد من المصداقية المتصوّرة للرسالة، لا سيما إذا كان المصدر الناشر لها مما يتماهى معه الفرد من الجمهور". ناهيك عن أن المعلومات الكاذبة أكثر جاذبيةً ولذاذةً بما يضيفه إليها "طباخ المعلومات" من بهارات ومواد حرّيفة، كما أن "تكلفة" شرائها وتناولها أرخص، وهو ما يدفع كثيرين إلى التهامها، ويقلّل من قدرة آخرين على مقاومتها.
يتجاوز الأمر القدرة، المرعبة، على تغيير قناعات أغلب الناس إلى "إذلال" الأقلية الواعية، وهو ما يشير إليه خبراء آخرون، وينقله عنهم الباحث عبد السلام المحمدي، في مقدمة ترجمته كتاب "حول الطغيان" لتيموثي سنايدر، حيث يرى مراقبون أن السلطة الاستبدادية، في بعض الأحيان، لا يعنيها إقناع الناس بتصوّراتها وأكاذيبها، قدر ما يعنيها الكشف عن هيمنتها وقدرتها على قول ما تريد، وفرضه بالقوة، صدّق الناس أم لم يصدّقوا، رضوا أم لم يرضوا. هنا يصبح كل شيء قابلا للقول، كما أن كل شيء مهما بدا بدهيا وواضحا فبالإمكان تحدّيه وتجاوزه. لسان حال السلطة، وهي تكذب ببجاحة: "أعلم أنكم تعلمون أن ما أقوله غير صحيح، وأعلم أنكم تعلمون أنني أكذب، ولكني أريد أن أؤكد لكم على حقي في أن أقول ما أشاء. وهو مشهد هزلي يجعل من اشتباك المرء مع تلك الأكاذيب الفجّة طلبا لفضحها وكشف زيفها أمرا مهينا. كما أنه يعبر عن خلل في إدراك طبيعة المعركة، وإفراغ للجهد في الموضع الخطأ، إذ مقصود السلطة التعبير عن قوتها في اصطناع الواقع الذي تراه، ولن تتمكّن من صد قوة الماء المنهمر من خراطيم الأباطيل برذاذ الصدق".