لماذا لا تنتهي الحرب في السودان
بعد مرور ثلاثمائة يوم على اندلاع المعارك في السودان بين قوات الدعم السريع وجيش الدولة السودانية، لا يزال وقف الحرب بعيداً عن التصوّر. هناك أسباب تقليدية لذلك، منها تمسّك طرفي الأزمة بحسم الموقف عسكرياً وعدم تقديم أي تنازلات ذات قيمة. والعامل الشديد الأهمية تعقيد الموقف الميداني وتقارب موازين القوى بشكل أقرب إلى التوازن بين القوتين.
ولكن ما بين السطور أدلّ وأعمق من تلك الملامح الظاهرة، فالتوازن العسكري يعني تقارباً بين القوى والإمكانات، وتشابه أنظمة التسليح نوعاً وكمّاً، بالإضافة إلى الكفاءة القتالية وأعداد القوة البشرية المتاحة. وهذا غير حاصل؛ إذ يتفوّق الجيش السوداني في كل هذه العناصر، فهو يملك سلاحاً جويّاً مسلحاً بطائرات مقاتلة وأخرى قاذفة، بينما لا تملك قوات الدعم السريع أي قوات جوية، لكنها تتفوّق على الأرض بالسيطرة على ما يصل إلى 70% تقريباً من الخرطوم ومحيطها، معظمُها مناطق سكنية، وليست ساحات قتال مفتوحة. ولذا لا يمثل التفوّق الجوي عنصراً حاسماً أو ميزة كبرى في المعارك العنيفة المتركزة في العاصمة وحولها.
وفي الظروف العادية لحربٍ بين جيش نظامي ومليشيا متمرّدة، فإن أياماً معدودة من المطاردة وحرب العصابات في شوارع الخرطوم تكفي جداً ليتمكّن الجيش (السوداني) من تدمير المتمرّدين تماماً، غير أن هذا لم يحدث في السودان لأكثر من ثمانية أشهر، لم تتوقّف خلالها المعارك بين الجانبين، لأن الطرف المفترض أنه الأضعف في المعادلة (قوات الدعم السريع) يتلقّى مساعداتٍ ودعماً مباشراً ومكثفاً، عسكرياً وسياسياً أيضاً، فقوات حمدان دقلو (حميدتي) تحصل على أسلحة متقدّمة، بل وتطوّر قدراتها حسب تطور المعارك بما يوازن إمكانات الجيش السوداني النظامي. فقد حصلت مثلاً بعد انفجار الأزمة واندلاع المعارك على مضادّات طيران ورادارات دفاع جوي، لم تكن تملكها من قبل. بل إن أنظمة الاتصالات والسيطرة والتوجيه التي تعمل بها تلك القوات في تنسيق تحرّكاتها، ونقل الأوامر والتعليمات رأسياً وأفقياً، ذات تكنولوجيا متقدّمة تحظى بتعديلات وميزات خاصة، ليست متاحة إلا لقليل من الدول، بعضها في الشرق الأوسط.
من موجبات التساؤل أيضاً بشأن أسباب استمرار الحرب تلك القدرة الاستثنائية لدى "قوات الدعم السريع" على تعويض الخسائر في الأفراد والمعدّات وإدخال كميات جديدة من الأسلحة إلى العمليات القتالية الدائرة، والتي تتغيّر جبهاتها من حين إلى آخر. كأن هناك قنوات أو ممرّات مفتوحة تتدفّق منها الأسلحة، بل والمقاتلون، من دون توقّف. وهنا تدور علامة الاستفهام الضرورية لاستيعاب الصورة كاملة، بشأن عدم فرض حظر جوي وبحري على أي شحناتٍ عسكريةٍ غير نظامية متّجهة إلى السودان، أو على الأقل مراقبة المطارات والموانئ البحرية والمنافذ البرّية.
منذ اللحظة الأولى لنشوب الأزمة، تتبادل القوى الكبرى الصراخ بضرورة وقف القتال، من دون أي تحرّك عملي أو خطوة واحدة في هذا الاتجاه. بل بالتأكيد لدى أجهزة الاستخبارات منذ اندلاع الأزمة خريطة كاملة ودقيقة لأماكن تمركز قوات الدعم السريع ومخازن أسلحتها ومواقع القيادة والتوجيه والسيطرة، وكذلك لكل المنافذ والممرّات الرسمية وغير الرسمية التي يمكن من خلالها تهريب أسلحة إلى داخل السودان.
لا يعود استمرار الحرب إلى عوامل تقليدية فقط، بل يرتبط بالأساس برغبة أطراف إقليمية وعالمية في نشوب الأزمة أصلاً واستمرار الحرب أطول وقتٍ ممكن. وربما تحويلها لاحقاً إلى وضع دائم وتقسيم فعلي لأراضي الدولة السودانية، لتنضمّ إلى مسلسل التفكك والانهيار الذي أصاب دولاً عربية كانت في الماضي مركزية، ولها دور محوري في تحديد مصير المنطقة ككل.