لماذا لم يعدموا إسماعيل هنية في قضية رابعة؟
استباقًا لذكرى اغتيال الرئيس محمد مرسي، تحرّكوا سريعًا لإصدار القرار بتصفية من دافعوا عن شرعية مرسي، رافضين الانقلاب عليه.
تأتي الذكرى، وبدلًا من الكلام عن الجريمة التي بدأت بقتل الجماهير في ميدان رابعة، ولم تنته بقتل الرمز الذي اعتصمت دفاعًا عنه الجماهير، صار الكلام، في معظمه، توسلاتٍ واستجداءاتٍ واسترحاماتٍ للقتلة، لكي يعفوا ويصفحوا عن الضحايا الأبرياء.
فعل الاسترحام، أو الاستجداء نفسه، فيه إقرار ضمني بإدانة الضحايا وتجريمهم، إذ لا يكون هناك عفو من دون جريمة، وهنا أنت بصدد تمثيلٍ بجثّة الحقيقة، بعد اغتيالها في محاضر الاتهام وسيناريوهات مسلسل المحاكمات. هكذا، بدلًا من النضال من أجل العدالة والدفاع عن حقوق الضحايا، يتم تحويلهم إلى متهمين مذنبين، ويصبح قاتلهم صاحب القلب الكبير الذي يناشده الذين كانوا مشاركين في تلفيق الاتهامات الباطلة، أن يتعطف ويرحم ويغفر.
لن أحدّثك عن قيمة محمد البلتاجي السياسية والإنسانية، ودوره التاريخي في ثورة يناير المصرية. ولن أتكلم عن بسالة عصام سلطان، السياسي والمحامي، في الدفاع عن مخالفيه في الرأي والتوجه السياسي. ولن أعيد عليك عشرات الشهادات في نبل أحمد عارف وعبقريته في إشاعة المحبة والسلام في مجتمعه، أو حسام أبو البخاري وأسامة ياسين. لن أردّد على مسامعك الحقيقة المعروفة للكافة، وهي أن الاثنى عشر مصريًا الذين صدر القرار القضائي النهائي بإعدامهم، وينتظرون التنفيذ في غضون الأسبوعين المقبلين، لم يرتكبوا جريمة سوى أنهم مارسوا حقهم في التعبير عن موقف سياسي وإنساني، رافض للظلم والانقلابات العسكرية.
سأتوقف، فقط، عند حالة الشقيقين محمد ومصطفى، الشابين اللذين شملهما حكم الإعدام، وهما ابنا العالم الجليل الراحل الدكتور عبد الحي الفرماوي، أحد أهم أساتذة التفسير وعلوم القرآن، في مصر والعالم الإسلامي. سبق أن كتبت عن قصة اتهامهما في وقتها في أثناء اعتصام ميدان رابعة العدوية، وتناولتها غير مرّة فيما بعد، استنادًا إلى شهاداتٍ عديدةٍ تبرئهما مما نسب إليهما من اتهامات. حكاية هذين الشابّين تصلح وحدها لنسف كل الأكاذيب المتعلقة بقضية اعتصام رابعة العدوية، إذ تمثل النموذج الصارخ في التلفيق والكذب واختراع القضايا من العدم.
لن أبدأ بسرد شهادات من يعرفونهما، بل سأنقل حرفيًا ما نشرته الصحافة المؤيدة للانقلاب، استنادًا إلى البيانات الرسمية الصادرة عن أجهزة وزارة الداخلية التي ألقت القبض على هذين الشابين، وبالتالي قدّما للمحاكمة، بوصفهما عنصرين فلسطينيين خطرين، تابعين لكتائب عز الدين القسام، واقتحما حدود مصر لارتكاب جرائم إرهابية.
نشرت صحيفة الشروق المصرية في 18 يوليو/ تموز 2013 تحت عنوان" اثنان من المتهمين في واقعة بتر الإصبع يحملان الجنسية الفلسطينية"، وفي التفاصيل ما يلي: توصلت مديرية أمن القاهرة أمس إلى أن اثنين من بين أعضاء جماعة الإخوان المسلمين الخمسة المتهمين بتعذيب معارض للرئيس السابق محمد مرسى، وبتر سبّابته، يحملان الجنسية الفلسطينية. ونشرت أجهزة الأمن صورة لأحدهما، ويدعى محمد عبد الحي حسين، يظهر فيها رئيس الحكومة الفلسطينية المقالة، إسماعيل هنية، وهو يكرّمه لتفوقه فى دورات التدريبات القتالية التى تنظّمها حركة المقاومة الإسلامية (حماس). وكشفت تحرّيات مباحث القاهرة أن المتهمين الرئيسيين فى واقعة تعذيب المجنى، ويدعى أحمد حسين محمد (21 عاما ــ عاطل)، والذي أصيب بقطع عقلة إصبع سبّابة اليد اليسرى، وبجروح بالصدر والوجه أثناء وجوده في ميدان رابعة العدوية، هما محمد عبد الحى حسين، وشقيقه مصطفى، عضوان فى كتائب الشهيد عز الدين القسام، الجناح العسكرى لحركة حماس. وأفادت التحرّيات بأن المتهمين حضرا إلى مصر لمعاونة جماعة الإخوان المسلمين فى "ارتكاب عمليات إرهابية ضد المتظاهرين المعارضين للرئيس المعزول". وأوضحت أن الصدفة والتشديدات الأمنية المحكمة التي وضعتها مديرية أمن القاهرة على مداخل ومخارج العاصمة لضبط المندسين والعناصر الإجرامية، التي تسعى إلى إثارة الفوضى بالشارع، قادت ضباط مباحث القاهرة إلى الكشف عن "العناصر الإرهابية التابعة لحماس، التى جاءت إلى مصر لدعم الإخوان خلال تظاهرات ثورة 30 يونيو". وكشفت أن المتهم الرئيسى وشقيقه دخلا بطريقة غير شرعية عبر الأنفاق بمحافظة شمال سيناء يوم 23 يونيو، وظلوا لمدة 4 أيام فى سيناء، وبصحبتهما عدد كبير من الجهاديين الفلسطينين، وبعدها سافرا إلى القاهرة يوم 28 يونيو، واستقرّا بإحدى الشقق بمنطقة مصر الجديدة، ثم اشتركا فى اعتصام المؤيدين برابعة العدوية. وكشفت التحرّيات أن المتهم الرئيسى وشقيقه دخلا بطريقة غير شرعية عبر الأنفاق بمحافظة شمال سيناء يوم 23 يونيو، وظلوا لمدة 4 أيام فى سيناء، وبصحبتهما عدد كبير من الجهاديين الفلسطينين، وبعدها سافرا إلى القاهرة يوم 28 يونيو، واستقرا بإحدى الشقق بمنطقة مصر الجديدة، ثم اشتركا فى اعتصام المؤيدين برابعة العدوية.
.. هذه الكذبة الهائلة التي نشرتها "الشروق" قبل مذبحة فض اعتصام رابعة العدوية بأكثر من ثلاثة أسابيع، عن هوية الشابين تكفي، وحدها، دليلًا على نسف قضية اعتصام رابعة العدوية من جذورها، وأي دارسٍ مبتدئٍ للقانون يعلم أن القضية المبنية على دليل باطل هي بالضرورة باطلة، وأن العقوبات المقرّرة في قضية باطلة هي بالضرورة عقاباتٌ باطلة، وأن المسألة برمتها أسّست على تزوير أمني وتزييف سياسي وإعلامي، لم يتورّع عن اتهام محمد البلتاجي بقتل ابنته الشهيدة في فض الاعتصام، أسماء البلتاجي.
أما القصة الحقيقية للشابين اللذين صدر بحقهما قرار الإعدام فهي كالتالي، كما وصلت إلي من رسالة قارئ محترم، في ذلك اليوم القائظ من يوليو/ تموز 2013: "أمسكوا بحرامي في اعتصام رابعة بعد صلاة الفجر، وكعادة الحشود عند وجود مثل هذه الحالات، تنهال ضربا دون تفكير على الحرامي، وهو ما نراه تحت بيوتنا حتى عند القبض على حرامي، وليس بالضرورة في الاعتصامات. ولنبل أخلاق محمد الفرماوي وأخيه ومصطفى وهيثم وشهاب وأحمد، أبعدوا الناس عن الحرامي، وقرّروا إسعافه سريعا والمخاطرة بالذهاب به للمستشفى. وبالطبع، رفض مستشفى التأمين الصحي ومستشفى آخر استقباله، وقام الشباب بالتواصل مع مستشفى البنك الأهلي بالتجمع الخامس من خلال دكتور صديق لهم، وأخبرهم أن يأتوا به وسيتصرف هو. فى الطريق من رابعة للتجمع، أوقفهم كمين، ولأن الحرامي حرامي في النهاية، قال لهم إنهم من رابعة، وقطعوا إصبعه، لأنه معارض، وكانوا ينوون ضربه حتى الموت، ورميه فى الصحراء!".
بالعودة إلى بيان الداخلية ومحضر ضبط الشابين، المفترض أنه وصل إلى المحكمة، فقد تم القبض عليهما باعتبارهما فلسطينيين حمساويين من كتائب القسام، فهل نظرت المحكمة في صحّة هذه المعلومات الرسمية؟ إذا كانت قد تأكدت من صحتها فقد كان المنطقي أن تعاقب قيادات "حماس" على إرسال كتائب موت إلى مصر. وإذا لم يكن ذلك صحيحًا، فالمنطق أيضًا يقول أن الشابين حوكما ودينا بناءً على محاضر ومعلومات مزوّرة، كان العدل يقتضي أن يكون العقاب لمن زوّروا ولفقوا الاتهامات. هل قلت العدل؟
اعتذر عن إقحام الكلمة في سياق الحكاية المصرية، تلك الحكاية التي تلخص المأساة الحضارية التي تتخبط فيها مصر منذ ثماني سنوات: ضحايا أبرياء قيد الإعدام والسجن والتنكيل، وجزّار يواصل تقطيع لحم مصر ووضعه في المفرمة، ثم يجد من يكافئه ويصادقه ويدعمه ويصفق له.