لماذا يُدافع وائل حلاق عن المعرفة الإسلامية؟
شاركني زملاء في إسطنبول، الأربعاء الماضي 17 مارس/ آذار الجاري، حفل توقيع الإصدار الجديد، "وائل حلاق وإدوارد سعيد.. جدل ثالث" (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2021)، وأكتب اليوم عن رسالة حلاق الأخيرة، والأهم بالنسبة لي في كتابه، أو جدلي المتواضع مع القامتين التاريخيتين.
قرنان لدراسات الاستشراق المكثف، تتحوّل فيهما المجسّات والخوض في رحلة الفكر عن الشرق القديم، والحدث الروحي الذي غيّر العالم، واستعدى الفوقية الغربية في القرون الوسطى، بعد أن فقدت امتدادها في الشرق، في بيزنطة وفي دمشق. لقد تغير العالم، وليس العرب فقط في ذلك التاريخ.
هذا الجذر التاريخي لا يمكن إسقاطه في رحلة القوة المعرفية المعاصرة، ووجود مسارات مصالح صراعية، بين الأمم خارج الشرق أو معه، لا تغيّر هذه السردية التاريخية التي ربطها الاستشراق، بالحقول الأكاديمية الغربية. هذه الضرورة المعرفية هي في الوقوف على نظريات فكرية تمثل غذاءً للعالم، وليس سبكها في إطار خرافي، أو حتى تصويري تجميلي، مخافة أن تُفسح لها منصّة الحوار والتأمل، فيكتشف العالم أن هناك دواءً غير الدواء المغشوش للحداثة، وقصة كونية أكثر انسجاماً مع عقله، من عقلانية الحداثة، وروحاً أخلاقية وقيما، كانت أكثر قدرةً، لصناعة حداثةٍ تفتح بوابة سعادةٍ مقترنةٍ مع التطور، منسجمة مع حياة الطبيعة للمؤمنين بالإسلام وغير المؤمنين به، لكن ذلك كله لم يحصل، فصوّر الشرق سلطانا مستبدّا وغانيةً مسروقة.
لا يُنظر إلى الحدث والتاريخ القديم بمنظور الاستسقاء المعرفي المجرّد لصالح الإنسانية
ينفي حلاق أن قاعدة الإيمان الروحي لقيم الشرق، وقد طرحها ماكس تشيلر، توضع (بالضرورة) تحت استبداد ديني ملزم، لأن فهم رحلة التكوين الأخلاقي للفرد لا تتعارض مع رؤية الكون الذي يقوم على العدالة والإحسان، ولا يجيز هذا التكوين إعطاء الاستبداد الديني أي حالة خصوصية، تعصف بقواعد العدل الذي قام عليه العالم، في قانون "الشريعة". وبالتالي فهم العسف الظالم لأنظمة الاستبداد السلطوي، فيما أطلقت على عهدها الخلافة (بعد الراشدين) أو الحكم الفردي القُطري، واستخدام الدين، هو إسقاط قيمة العدل وافتراء على المشرّع، ومعصية كبرى في نصوص القانون ذاته، حين يبطش بها الحاكم، أو أفتى له شيخ السلطة، لا عالم المعرفة.
يشير حلاق في معضلة إعاقة الوصول إلى الترياق المعرفي للفكر الإنساني، إلى موقف الباحث الاستشراقي، كيف يحقق نتيجة مختلفة للفهم، من دون أن يكون موقفه منصبّاً، على الرؤية المُهينة، بأنه يُحلل فهم الشرق نيابة عن المسلمين (المتخلفين)، ثم يقدّم لمشروعه التمييزي هذه الصورة المصنوعة، ويُعيد بعثها لأجيال الشرق ذاته، فهذا التدوير يبقي مصالح القوة، بغض النظر أُسميت الكولونيالية الرأسمالية أو التقدّم الحداثي، فالمحصلة واحدة.
يُبدع حلاق في النظرة الشمولية للسردية المعرفية لسيادة الحداثة للتاريخ، هذه النظرة بالفعل تم تصديرها إلى الشرق وأجياله، وهو موقع التاريخ أمام المعرفة الحداثية. التاريخ هنا هو مفعول به باستمرار، الفاعل الحداثة والتقدم، فلا يُنظر إلى الحدث والتاريخ القديم بمنظور الاستسقاء المعرفي المجرّد لصالح الإنسانية، وزرعها في مسار المشترك، ثم النظر إلى كوارثها، كما إلى إبداعات التاريخ الحضاري بهذا المعيار الأخلاقي.
المعرفة السيادية هي سور وسجن، لأنها ببساطة الوجه الآخر للقمع
وتتجذّر أمام الباحث، وهو يستكمل رحلة حلاق عن الأزمة الأخلاقية العميقة لرحلة البحث الأكاديمي، هيمنة القوة واعتماد نظرية التمييز، وبالذات قهر قيم الشرق لسلب أهليته، وللتشكيك في إنسانيته، والشرق هو المدافع الأخير عن معايير القيم والمثل الإنسانية العليا، المشتركة للبشرية، في حين دمّرت الإنسانوية الحداثية بيئة العالم وهشّمت تاريخه، ووضعته في حديقة حيوان مفترس، بحسب منظور القوة، أليست هذه الحداثة هي ذاتها: كانت تعرض طفلاً أفريقيا في حديقة حيوان عامة في أوروبا؟ حسناً ما هو المعيار إذن، لنفهم ذواتنا كإطار إنساني ذي بعد روحي أخلاقي؟ لا يمكن أن يتم ذلك من دون العودة إلى الأسئلة الأولى، وهي المادة في تاريخ الإنسان، هل هي اللذّة الفردية أم مصلحته الإنسانية الوجدانية وشراكتها مع الآخر، الجواب هو معركة الحرية، نعم الحرية الثقافية، بل الحرية الإنسانية.
المعرفة السيادية هي سور وسجن، لأنها ببساطة الوجه الآخر للقمع، كيف يمكن أن أكون حرّاً من دون أن أحرّر مصادر معرفتي، من دون أن أتيقن من أن طريق الإنسان، كل الإنسان في حياتي، يسير بانتظام أخلاقي، ومرجعية معرفية، على الأقل في تحرير النظرية. وبالتالي، لا يمكن أن نصل إلى الحل من دون الانعتاق من النزعة الأحادية للحداثة في التاريخ، كما يؤكد والتر مانيولو، والأحادية في تراث المعرفة، وفي قيمها النصّية والتطبيقية، فيشير حلاق إلى الرؤي النقدية داخل الحداثة. وهذه المرّة، يلامس الأزمة بمشرطه الدقيق، كل هذه الرؤى النقدية لهيمنة القوة على المعرفة وتحديد من هو البدائي، ومن هو التقدّمي المتطور، لم تصل إلى العمق. يسرد حلاق هنا سلسلة أسماء للفلاسفة النقاد، فردريك نيتشة، ميشيل فوكو، هايدن وايت، وميشيل دي سيرتو، لماذا فشلت كل هذه المحاولات، على الرغم من أنها قد قامت بعض دوافعها، على استشعار أخلاقي، ولكنها انتكست في بعض الحالات، وقدّمت أمثلة فشل ذريع.
لا يمكن أن يصل الآخر المقابل للشرق إلى فهم ترياق حلاق في المعرفة الإسلامية، من دون أن يُصلح مصادر الذات الأخلاقية
لأن المصدر الآخر غائب، ولا يؤمن بأن التاريخ يدور بين حلقات البشرية، وليس مَفرَزَةً طبقية بين جغرافيا الشمال والجنوب، لكن هذا التاريخ المعرفي الدائر لم يُستدع، ولم تعالج تقنيات النفس في استدعائه، لم ينظر إلى حياة الإنسان والمخاطر التي زُرعت في طريقه في كل مكان، منذ الصرخة الأولى، حتى خنقه بالتلوث كل أنواع التلوّث، حتى أضحى دمية تديرها الحداثة الرأسمالية. لقد تحوّل الإنسان إلى سلعة كاملة، فلا يمكن أن يصل الآخر المقابل للشرق إلى فهم ترياق حلاق في المعرفة الإسلامية، من دون أن يُصلح مصادر الذات الأخلاقية، ويفترض، كرحلة باحث مستقل، حتى بدون إيمان برؤية الآخر، أنني لن أصل إلى المعلومة من دون الأداة المطلوبة. والأداة هنا ليست صناعة مادية، ولكنها تدريب روح أخلاقي، حينها سيصل الباحث الغربي إلى الدرب المضيء.