لماذا يُقلق مقتدى الصدر إيران؟
يثير الصراع الدائر في بغداد بين زعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر، وتحالف الإطار التنسيقي الذي يضم بقية القوى السياسية الشيعية، وفي مقدمتها حزب الدعوة، الذي يقوده رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، اهتماماً كبيراً في المنطقة وعواصم العالم الكبرى. فالعراق، بحجمه وإمكاناته وطاقاته (خامس احتياط عالمي وثالث أكبر مصدّر للنفط) بلد مهم شغل العالم على مدى العقدين الأولين من القرن الحادي والعشرين، وقد دارت فيه وحوله معارك كبرى شاركت فيها قوى دولية وإقليمية عديدة، ابتداءً من الغزو الأميركي عام 2003، مروراً بمرحلة التنافس الأميركي - الإيراني على الإمساك بمفاصل السلطة فيه (2004 - 2011)، ثم الصراع مع تنظيم الدولة الإسلامية (2014 - 2017)، وصولاً إلى المعركة التي تدور الآن حول شكل النظام السياسي ومستقبله.
ومن بين كل القوى ذات العلاقة لا يبدو أحداً مشغولاً بما يجري في العراق كما إيران، ولهذا أسبابه. فعلى امتداد النصف الثاني من القرن العشرين، شكّل العراق التحدّي الأكبر لمشروع إيران الإقليمي، سواء بشكله الامبراطوري البهلوي (1921 - 1979) أو بشكله الجمهوري - الثوري المستمرّ منذ عام 1979. وقد استغلت إيران فرصة الغزو الأميركي للعراق عام 2003، ليس فقط لإسقاط خصم تاريخي ممثلاً بنظام الرئيس صدّام حسين، بل للسيطرة على العراق أيضاً، الذي كان قد حَجّمَ مشروعها الأيديولوجي وحبس طموحاتها الإقليمية داخل حدودها أكثر من عقدين (1979 - 2003). فقط غداة سيطرتها على العراق، عبر حلفائها من قوى وأحزاب ومليشيات، تحوّلت إيران إلى قوة إقليمية مهمة. قبل ذلك، كانت إيران، التي خرجت منهكة من حربها مع العراق، قد رضيت من الغنيمة ببقاء نظامها، بعد أن كانت ترمي إلى تغيير بنية النظام الإقليمي، وتطمح حتى إلى تغيير القيم والقواعد التي يقوم عليها النظام الدولي. سقوط العراق غيّر تلك المعطيات، حيث أخذت تتبلور معالم قوس نفوذ إيراني ممتد من مناطق غرب أفغانستان، التي تقطنها غالبية شيعية إلى شواطئ المتوسط في لبنان.
على مدى عشرين عاماً، استثمرت إيران في السيطرة على العراق، كما لم تفعل في أي مكان آخر، ولا حتى في لبنان، على أهمية حزب الله، ذراع إيران الإقليمية الأكثر أهمية. بالنسبة إلى إيران، لا شيء يعادل العراق في أهميته، ليس فقط من الناحية الجيوسياسية، بل أيضاً من الناحية الاقتصادية (الأسواق وتهريب الدولار وإعادة تصدير النفط في ظل العقوبات الأميركية، إلخ)، دع جانباً أهميته الدينية باعتباره حاضن العتبات المقدّسة الشيعية. وخلال الفترة بين عامي 2011 - 2019، أي بين الانسحاب الأميركي وسقوط حكومة عادل عبد المهدي، نهجت إيران في العراق نهج سورية في لبنان بين عامي 1991 - 2005، فكانت تشكل حكوماتٍ، وتنشئ تحالفات وتفكّكها، وصار قائد فيلق القدس اللواء قاسم سليماني حاكماً فعلياً للعراق، يعيّن ويقيل ويصعّد وينزّل.
لكن هذه الحال تغيرت اعتباراً من خريف 2019. عاملان رئيسيان كان لهما دور حاسم في ذلك، الأول ثورة تشرين حينما نزل الشباب العراقي في المحافظات ذات الغالبية الشيعية في الجنوب والوسط إلى الشارع، رفضاً للطائفية، ومطالباً بخروج إيران و"إسقاط الطبقة السياسية الفاسدة" التي حكمت البلد بدعم منها على مدى عقدين. والثاني غياب قاسم سليماني عن مسرح الأحداث عقب مقتله في مطار بغداد بعد نحو ثلاثة أشهر فقط على اندلاع انتفاضة تشرين (2019). زعزع غياب سليماني نفوذ إيران في العراق، وبيّن أن تأثيرها فيه كان قائماً على ظل رجل واحد فشلت في تعويضه، ما أفقدها السيطرة على الوضع هناك. أبرز دليل على تأثير غياب سليماني يتمثل بالنهج الذي اتّبعه مقتدى الصدر منذئذ، ففيما وقف الصدر ضد ثورة تشرين، ووجهت إليه اتهامات باستهدافها، ها هو اليوم يقود المطالبات الداعية إلى تحرير العراق من النفوذ الإيراني وتغيير النظام السياسي القائم على المحاصصات الطائفية. هذا الخطاب الصادر عن أحد أهم القادة الشيعة في العراق هو ما يثير قلق إيران، إلى درجة أن يصفه إعلامها بأنه عدو إيران الأول في العراق اليوم. هذا يعني أن إيران تستشعر أن معركة إخراجها من العراق ربما صارت أكثر جدّية، فانتفاضة 2019 كانت هبّة شعبية من دون قيادة واضحة، أما الآن، فقد تبنّت مطالبها قيادة (شيعية) قد تكون متقلبة، لكنها مؤثرة وقدرتها على الحشد عظيمة.