ليبيا .. الفساد زوبعة في فنجان
تكاد لا تمرّ مناسبة من دون أن يعلن فيها معظم المسؤولين الليبيين، على مختلف مستوياتهم، محافظتهم على المال العام ومحاربتهم الفساد، وادعاءهم مكافحة هذه الآفة التي انتشرت إلى درجة تكاد تكون قاعدة ثابتة، بعدما كانت استثناء. وأصبح يُنظر إليها نوعاً من الذكاء (وتشغيل الدماغ)، وتحول الفساد الى مهنةٍ مارستها، وبكلّ كفاءة، طبقة سياسية وعسكرية، بما يخدم مصالحها وأهدافها، على الرغم من تصاريح هذه المجموعات وخطبها التي تطلقها ويملأ صداها البلد، والتي تزعم فيها الوطنية والحرص والتفاني في خدمة الشعب بكل نزاهة، وتتهم غيرها بممارسة الفساد والوساطة والمحسوبية، وتوزّع التهم ذات الشمال وذات اليمين، من دون أن يملك أحدهم الشجاعة ليقول "وما أبرّي نفسي" ويتفنن الجميع في تمثيل دور الحريص على الأموال العامة والمتمسّك بحرمتها.
وعلى الرغم من إدراك غالبية المواطنين الليبيين حقيقة الفساد المستشري، والذي لا يحتاج إلى أيّ مجهودٍ لاكتشاف انتشاره في بلدٍ يبدو أنه عجز عن محاربته، رغم تعدّد الجهات والمؤسسات التي تدّعي ذلك، ما أكّده تقرير ديوان المحاسبة الذي نشر أخيراً، والذي جاء في 981 صفحة، عن المخالفات الإدارية والمالية في كلّ قطاعات الدولة، وأثار موجة من الغضب، عكستها الإدراجات والتغريدات التي تناولها المواطنون على صفحات التواصل الاجتماعي، والتي طغت على ما سواه من مواضيع، حيث يبدو أن كثيرين لم يتوقعوا كل هذا الكم من الفساد، والذي تكاد لا تخلو جهة عامة منه.
أرقام مخيفة وحقائق صادمة عن حجم الفساد والتجاوزات التي تحدث في بلدٍ لا يزال ينزف المليارات، من دون أن ينعكس ذلك على حياة المواطن، بل على العكس تزداد معاناته، وتتفاقم مشكلاته اليومية باستمرار، صعوبات يبدو أنها تتناسب طرديا مع الأموال المفترض أنها تخصّص لتسهيل الظروف المعيشية، فكلما ازدادت قيمة هذه الأموال زادت ظروف المواطن سوءا، لأن هذه الميزانيات في الواقع تذهب إلى جيوب الفاسدين والحذّاق، لترفع الأسعار ويعجز المواطن البسيط عن الحصول على ضروريات الحياة التي تصبح ترفا لا يحلم به.
أنفقت وزارة التعليم، للنهوض بالعملية التعليمية، 155 ألف دينار لشراء هواتف نقّالة شخصية لأعضاء لجان فيها
وعلى الرغم من فداحة كلّ ما جاء في التقرير من مخالفات إدارية ومالية، جعلته حديث الناس وتندّرهم، إلا أن هناك نقاطا كانت أكثر إثارة للسخرية والتهكّم، خصوصا المتعلقة بالأكل والملبس والهواتف النقالة، فوجبة الغداء الواحدة لوزيرة الخارجية، على سبيل المثال، تكلف 250 دينارا يوميا. أما هيئة الأوقاف والشؤون الإسلامية فقد ذكر التقرير أنّها تعاقدت مع شركة لتوريد الزي العربي (التقليدي) بمبلغ 700 ألف دينار. وأن وزارة التعليم، من أجل النهوض بالعملية التعليمية، أنفقت 155 ألف دينار لشراء هواتف نقّالة شخصية لأعضاء لجان فيها، في حين أن مصروفاتهم على بند وجبات "VIP" 150 ألف دينار خلال أسبوع حسب تقرير الديوان، مع العلم أن توفير الكتاب المدرسي لا يزال مشكلة المشكلات نتيجة عدم تخصيص المبالغ المطلوبة لطباعته في الوقت المناسب، الأمر الذي جعل الطلبة في أغلب المدارس يدرسون بدونه. أما مصاريف شركة الكهرباء، والتي تعدّ الأزمة المستمرّة منذ سنوات، فقد أنهكت الدولة بملياراتٍ لم تساهم في أي تحسّن، ولو نسبيا، في خدمات الكهرباء التي أصبحت زائرا خفيف الظل، ما أن يدخل البيت حتى يغادره على عجل، وأصبحت المولّدات الكهربائية الخاصة جزءاً من حياة المواطن، قد تحل المشكلة إذا ما تحصّل على وقود لتشغيله. أما تلك المليارات المخصّصة لهذا القطاع فقد ذهبت إلى شراء أثاث وسيارات خاصة وهواتف نقالة لمديرين تناوبوا على إدارة الشركة.
وفي الإطار نفسه، ودائماً حسب ما ورد في تقرير الديوان، كلّف سكن نائب رئيس حكومة الوحدة الوطنية عن الجنوب ومصاريفه في فندق راديسون بلو 337 ألف دينار في ثلاثة أشهر، أي بمعدل 105 آلاف دينار شهرياً. أما المقارنة المضحكة المحزنة، والتي ترسم أكثر من علامة تعجب، فهي أنّ رئاسة الوزراء اشترت ساعات هدايا بقيمة 12 مليون دينار، وسيارات فارهة خاصة بموكب رئيس الحكومة بقيمة تجاوزت 21 مليون دينار، في وقت لم تكن ميزانية مركز طرابلس الطبي، وهو المستشفى الرئيسي في العاصمة طرابلس 15 مليون دينار، كافية لإدارة هذا المرفق العام، حتى وصل الأمر إلى أن المريض الذي يتقرّر إيواؤه في المركز يتكفّل بإحضار البطانية والفراش اللذين عجز المركز عن توفيرهما. أما المقارنة الأخرى فهي أن وجبة الإفطار والغداء لأحد المسؤولين تتجاوز قيمة مرتب موظف بسيط يطلب منه الدفاع عن الوطن والانتماء له والموت في سبيله.
لا النظام مستعدّ للإقرار بفشله، ولا الشعب لديه الشجاعة ليعلن عجزه عن مواجهة هذه "الحكومات" التي تمارس كلّ هذا الفساد
وبالإضافة إلى المخالفات المالية الجسيمة التي أوردها التقرير، لم تكن الأمور الإدارية في أحسن حال، إذ يمكن أن تشير إحدى الملاحظات التي أوردها الديوان إلى مداها وجسامتها، حيث أورد التقرير أنّ المؤهل العلمي لرئيس وحدة المخاطر والخسائر في أحد أقسام صندوق الضمان الاجتماعي "رخصة قيادة".
لم يتأخّر رد الحكومة على هذا التقرير الذي أثار جدلاً كثيراً بشأن شبهات الفساد غير المسبوقة، فاجتمع الوزراء في اجتماع خصّص لمناقشة ما جاء في هذا التقرير، وقد حاول رئيس الحكومة، عبد الحميد الدبيبة، الرد على ملاحظات الديوان التي وصفها بالمسيّسة، مستشهداً بفساد الحكومة الموازية في بنغازي، قائلاً إنّها أنفقت نحو 1.5 مليار دينار في أسبوع واحد، وأضاف أنّ التقرير تضمّن قدراً كبيراً من المغالطات، وعبّر عن استيائه من نشر هذه المعلومات من دون الرجوع إلى الحكومة للاستيضاح والاستبيان، لكنّه، من جهة أخرى، أضاف أنّه لن يتسامح "مع الفساد والسرقة، ويجب على كلّ وزارة أو هيئة الرد على كل الملاحظات التي وردت من ديوان المحاسبة". وقد توالت ردود الوزراء وتبريراتهم للملاحظات في التقرير، لكنّ اللافت رد رئيس هيئة الأوقاف في الحكومة، والذي اتهم فيه ديوان المحاسبة "باختراق الأمن القومي الليبي، وإعطائه معلومات للدول الخارجية مجاناً من دون الحاجة إلى جواسيس".
في كل حال، لم يكن هذا التقرير بما احتواه من مخالفات الأول ولن يكون الأخير، وما هي إلا أيام، وستنتهي هذه الضجة الشبيهة بزوبعة في فنجان، وسينشغل المواطن الليبي بمشكلاته الحياتية، مواجها ضغوطا كبيرة في كيفية حصوله على ضروريات الحياة، فطوابير الوقود والغاز، والذلّ الذي يعانيه أمام المصارف وكأنه "يستجدي" أمواله، وارتهانه للظروف الاقتصادية التي تعصف به وتزداد قسوة في كل يوم ستنسيه كل ما جاء في هذا التقرير من مخالفات، وسيكون مصيرها كغيرها مجرّد أرقام وإحصائيات لا معنى لها، خصوصاً أنّها لن تؤدّي إلى متابعة المتورّطين في الفساد، الأمر الذي لا يزال بعيد المنال، وسيظل الوضع كما هو، لا النظام مستعدّ للإقرار بفشله، ولا الشعب لديه الشجاعة ليعلن عجزه عن مواجهة هذه "الحكومات" التي تمارس كلّ هذا الفساد.