ليبيا بين سجال الممانعة والموادعة
ربما انتهى شهر العسل قبل أن يبدأ بين حكومة الوحدة الوطنية والبرلمان الليبي المانح للثقة لها في 10 مارس/ آذار الماضي، حيث لم يتعدّ هذا التوافق إلا على منحها الثقة لا أكثر، إذ إن الجدال بينهما لم يتوقف منذ ذلك الوقت. وبعد أن كان الشعب متفائلا بحلّ الأزمة في البلاد، وإنهاء الصراع فيها، أصبح اليوم أكثر إحباطاً، باعتبار أن التوافق الذي أنشئت على أثره الحكومة لم يدم طويلاً، الأمر الذي لا يٌعزى إلى الأوضاع الداخلية في البلاد فحسب، بل أسهم العامل الإقليمي المتداخل في الأزمة، بشكل كبير، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، في إعادة إنتاج الأزمة التي ستكون عواقبها وخيمة في قابل الأيام، إن استمرّت بهذه الوتيرة وهذا التدافع.
كان للممانعة التي سار عليها البرلمان في عدم إقرار الميزانية في جلساتٍ متوالية، ونهج الموادعة الذي اتخذته الحكومة اتجاه ذلك بدون تحقيق نتائج أو أية جدوى تسهل من إقرارها، كان لهما آثار جانبية جعلت من البرلمان يطالب بمساءلتها، على الرغم من عدم إقرار ميزانية لها!
ذهب الواقع الليبي المنقسم سياسياً بعد الأحداث أخيرا إلى ترسيخ مبدأ المحاصصة والجهوية في جل الاتفاقات التي حدثت خارج البلاد وداخلها
ذهب الواقع الليبي المنقسم سياسياً بعد الأحداث أخيرا إلى ترسيخ مبدأ المحاصصة والجهوية في جل الاتفاقات التي حدثت خارج البلاد وداخلها، وأسهم هذا الأمر في إيجاد حالةٍ من عدم التوافق، وقبول الآخر، بمنطق جهوي ومحاصصي، تحصد نتائجه اليوم حكومة الوحدة الوطنية، باعتبار أن المحاصصة والجهوية تعملان على الفرقة وليس الاجتماع، بل ولا يمكن معها وبها بناء دولةٍ حديثةٍ تبنى على الكفاءات والوطنية. وهذا من أهم المعضلات السياسية والتنفيذية اليوم في ليبيا، ومن الواضح، أيضاً، أن التحرّر منها لن يكون بسهولة في قابل الأيام والأعوام، إذ إن الكل يتحدّث عن المناطقية والجهوية في الأمور السياسية، ناهيك عن التنفيذية فيها، بل وصل ذلك إلى محاولة تكوين قاعدة دستورية تجري عليها الانتخابات المقبلة وفق هذا النهج والتصور، الأمر الذي سيهدم ما تبقى من الدولة إن وجد.
كما أنه لا يخفى على أحد وجود جزء معطّل في البرلمان الليبي، يتخذ من نهج الممانعة طريقا له في تحقيق المصالح والمآرب، بل ربما يتخذ الممانعة وظيفةً له من أجل العمل على اصطياد أكثر من عصفور سياسي بحجر واحد ربما! وتعطيل إقرار الميزانية والمساءلة للحكومة خير شاهد على ذلك.
تتعلق الحالة الليبية بالسلطة ذاتها، وآليات إيجادها ومن ثم استبدالها، ابتداء بالأجسام التشريعية وليس انتهاء بالحكومات التنفيذية المتعاقبة
في المقابل أيضا، تسيس الجهات التنفيذية في الدولة يجعلها تتحرّك بوصفها كتلة سياسية لتحصيل مصالحها، ولو اضطرّها أن تجمع بين الأضداد والتناقضات، الأمر الذي يجعلها في أدنى المستوى التنفيذي للخدمات، والعمل على حل الأزمات. وبالتالي، فإنها لن تقدّم شيئا يذكر في إرساء الدولة الحديثة وتقوية بنيانها. وعلى الرغم من أن هذا التوجه الأكثر فجاجة في ظلم مؤسسات الدولة، والحد من كفاءة العاملين فيها، إلا أن هذا الاتجاه ظل مُمارسا عقب نجاح الثورة، وفي حكوماتٍ متتالية، الأمر الذي يستدعي العمل على الحدّ منه على أقل تقدير إن ثمة هناك صعوبات في إنهائه.
لا تتعلق المسألة، في الحالة الليبية، بحدود الممانعة والموادعة بين مكونات الدولة الواحدة فحسب، بل تتعدّاهما إلى أبعد من ذلك بكثير، حيث تتعلق الحالة الليبية بالسلطة ذاتها، وآليات إيجادها ومن ثم استبدالها، ابتداء بالأجسام التشريعية وليس انتهاء بالحكومات التنفيذية المتعاقبة، حيث إن "جميع" الأجسام ترفض بطريقة غير مباشرة أن يكون حل الأزمة وانتهاؤها على حسابها، مع عدم إهمال العامل الإقليمي المساعد لذلك. وبالتالي، فإن النظرة الحقيقة لقيام الدولة في ليبيا هو الدفع الحقيقي نحو إنجاح الطرق الفاعلة لإنجاح الاستحقاقات المقبلة، المتفق عليها حوارياً، والمتمثلة في إجراء الانتخابات البرلمانية في 24 ديسمبر/ كانون الأول 2021، تَضْمينا لخريطة الطريق التي تبناها ملتقى الحوار السياسي الليبي في نوفمبر/ تشرين الثاني 2020 في تونس.