ليست تدابير استثنائيّة في تونس
ثمّة اختلاف كبير في تسمية ما جرى في تونس يوم 25 تموز/ يوليو الجاري، هل هو انقلاب أم شيء آخر؟ ولا تؤدّي قراءة الفصل 80 من الدستور وتأويلُه وليُّه إلى استخراج ما يبرّر قرارات الرئيس قيس سعيد، فقد نصّ الفصل على أنّ غاية التدابير هي "تأمين عودة السير العاديّ لدواليب الدولة في أقرب الآجال، ويُعتبر مجلس نوّاب الشعب في حالة انعقاد دائم طيلة هذه الفترة. وفي هذه الحالة لا يجوز لرئيس الجمهوريّة حلّ مجلس نوّاب الشعب، كما لا يجوز تقديم لائحة لوم ضد الحكومة"، ووضَع لذلك أجلا هو 30 يوما فقط. والرئيس جمّد نشاط البرلمان، وأسقط حصانة النوّاب، وأعفى رئيس الحكومة، وجمع في يده السلطة التنفيذيّة، على أن يساعده فيها رئيس حكومة يعيّنه هو، ويعيّن وزراءها، ويجعلهم مسؤولين أمامه. وخصّ نفسه بتأويل الدستور، فأصبح هو المحكمة الدستوريّة (كان ينبغي تنصيبها منذ 2015). وأعلن أيضا أنّه رئيس النيابة العموميّة، فوضع يده على القضاء. وهذه الأمور كلّها لا يشير إليها الفصل 80، لا صراحةً ولا تلميحا، بل تنظّمها فصولٌ أخرى من الدستور خرقها الرئيس جميعا. فلا يمكن أن تكون قراراته، إذنْ، إلّا انقلابا على الدستور.
ولم يسمّ الرئيس إجراءه تحوُّلا ولا تغييرا ولا تصحيحَ مسار ولا حركةً تصحيحيّة ولا حراكًا ولا ثورةً، ولكن قال إنّه اتّخذ "جملة من التدابير الاستثنائيّة"، فإذا أخذنا بظاهر اللفظ فقط، فيمكن القول إنّ إجراءَه تأويلٌ متعسّفٌ لا انقلاب، لأنّه لا يؤدّي إلى تعطيل الدستور. ولكنّه في الآن نفسه ليس تصحيح مسار، وإنّما روّج هذه التسمية مثقّفو الانقلاب لتبريره.
ويمكن، قطعا لسوء الفهم المولّد للتشنّج الإيديولوجيّ، الاقتصارُ في النصوص المكتوبة والحوار اليوميّ على هذه التسمية: "التدابير الاستثنائيّة"، فتدلّ التسمية على أنّ الإجراءات محدودةٌ بأجل، وأنّها لن تصبح واقعا دائما. وتستوي بعد الاتّفاق على استثنائيّةِ التدابير الآراء المختلفةُ (الانقلاب وتصحيح المسار...)، فيكون لكلٍّ في الاعتقاد الشخصيّ رأيُه، وفي نصوصه وكلامه تسميةٌ واحدة موحِّدة.
أصبح البرلمان، في نظر التونسيّين، مجتمع مستفيدين، وصلوا إليه بالانتخاب، ثمّ انصرف كلّ واحدٍ إلى جمع منافعه الخاصّة والتنقّل بين الكتل النيابيّة
ولا يخفى على أحدٍ أنّ لهذه التدابير ما يؤيّدها من خارج نصّ الدستور، أي من الشارع الذي ضاق ذرعا بفشل الحكومة وتراخي البرلمان واستفحال الفساد، فقد أصبح البرلمان، في نظر التونسيّين، مجتمع مستفيدين، وصلوا إليه بالانتخاب، ثمّ انصرف كلّ واحدٍ إلى جمع منافعه الخاصّة والتنقّل بين الكتل النيابيّة (السياحة الحزبيّة)، وأهملوا ما انتُخبوا من أجله، حتّى اضطرّت رئاسة المجلس مرّات إلى رفع الجلسة لعدم اكتمال النصاب. ومن أشنع ما جرى أنّ البرلمان أصبح مكانا للصراخ والتشاتم والضرب، وعُطّلت جلساته تعطيلا منهجيّا، وسقطت هيبته. وعُطِّلت الحكومة، حتّى خلت فيها تسع وزارات، فتولّاها وزراء آخرون بالنيابة مع مهامّ وزاراتهم، وعجزت عن ملاحقة الفاسدين، وفشلت في حلّ مشكلة البطالة، ورفعت الأسعار مرّات، ولم تنجح في مواجهة وباء كورونا.. وظلّ شعار الحوار الوطنيّ مرفوعا في الخطاب معطّلا في الواقع، وساهم في ذلك رئيس الدولة برفضه الحوار الذي اقترحه اتّحاد الشغل.
هذا كلّه جعل التونسيين ييأسون من الطبقة السياسيّة والمؤسّسات المنتخبة، ويرحّبون بتدابير الرئيس، من غير مطالبته بألّا يكون تأييدهم إيّاه مقدّمة إلى حكم استبداديّ. ولا يثير القلقَ في حركة الشارع التعبيرُ عن كره حركة النهضة والبرلمان والحكومة والطبقة السياسيّة كلّها، ولكن الإفصاح عن كره الديمقراطيّة، فالكفر بالديمقراطيّة، بأيّ معنى كان، لا يجتمع معه إلّا الترحيب بالاستبداد، وتفويضه لمحاربة الفساد وإنصاف المظلومين!
وقد أدّت إلى هذه النتيجة عوامل كثيرة مركّبة، منها النظام الانتخابي، والتحريض الإعلاميّ، والعجز الحكومي، والخطاب الشعبويّ والفاشي، والتعطيل الرئاسي. ومن أهمّ أسبابها في عمل الأحزاب سياسةُ قيادة النهضة بتنكّرها للديمقراطيّة في مؤسّساتها، وبانقلابها على نصوصها المنظّمة (تأجيل مؤتمرها مثلا)، ورفضها نقدَ سلوكها وسياساتها، إلخ... ولذلك ما جرى للحزب وما يمكن أن يقع أمر متوقّعٌ؛ ولعلّه ضروريّ أيضا. ولا أعني الاضطهاد بصوره كلّها، فالنهضةُ الأولى (نهضة "إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى") انقرضت؛ ونهضة مونبليزير (باسم مقرّ الحزب) جسم كبير ولكنّه منقسمٌ مترهّل، ولا يملك في حالته هذه حلّا ينفع به البلاد. ولكن ينبغي أن "تُحَتْحِته" الديمقراطيّة، لا العنف والاستبداد، وهي قادرة على ذلك. ويؤكّده عجزُها اليوم وفشلُها وقلّةُ شعبيّتها، إذ لم يستجب لدعوة زعيم الحركة راشد الغنّوشي بالذهاب إلى البرلمان إلّا قلّة من الأتباع. وإنّما أظهرت ضعفَها وفشلَها التجربةُ الديمقراطيّة لا الاستبداد.
الكفر بالديمقراطيّة، بأيّ معنى كان، لا يجتمع معه إلّا الترحيب بالاستبداد، وتفويضه لمحاربة الفساد وإنصاف المظلومين
ولقد عمّقت التدابير الاستثنائيّة انقسام المجتمع، فغلب على مواقف مؤيّديها تقسيمُ التونسيّين إلى فريقين على قاعدة: إن لم تكن مع الرئيس فأنت مع "النهضة"، ودعوةٌ إلى المحاسبة والمطاردة وحلّ الأحزاب. وهذا اختزالٌ أيديولوجيّ يغيّب الذين ليسوا من حركة النهضة ولا معها، وإن عارضوا الرئيس. واتّهم المعارضون الرئيسَ ومؤيّديه بالانقلاب على الشرعيّة والدستور لتغيير طبيعة النظام، ووبّخوا الشعب لاستكانته وغفلته وعجزه عن حماية الديمقراطيّة. واستثنوا أنفسهم وسكتوا عن أخطائهم.
وأخطر مزلق "وقى الله شرَّه" المواجهةُ العنيفة أمام سور البرلمان، لو أنّها وقعت. وقد أخطأ الغنّوشي خطأ كبيرا لمّا دعا شباب "النهضة" وشباب الثورة إلى الذهاب إلى البرلمان والدفاع عن ثورته، وقال إنّ عمره ثمانون عاما ولا يملك الرئيس سعيّد إلّا أن يقرّبه إلى الجنّة! وشباب الحزب الذين لم يبلغوا الثمانين، ولم يعرفوا إلّا الحرمان، لماذا يعجلّ بهم حزبهم إلى الجنّة؟ وهل ينفع أحدًا في ساعة انقسام وتحريض خطابُ البطولة والشهادة؟ ثمّ انسحب وقد رأى عجزَ حيلته وقلّةَ من التحق به. مؤلمٌ أن ترى الجيش يطوّق البرلمان، وأشدّ إيلاما أن يقود البلاد سياسيّون عاجزون عن تصوّر نتائج سياستهم، فلا يعرّفهم إيّاها إلّا العسكر والأبواب الموصدة.
إجراء الرئيس تأويلٌ متعسّفٌ لا انقلاب، لأنّه لا يؤدّي إلى تعطيل الدستور. ولكنّه في الآن نفسه ليس تصحيح مسار
وقد وعد رئيس الدولة بأنّ تدابيره اقتضاها الوضع الاستثنائي، وبأنّه يحترم الدستور، ولكنّ كلامه مجرّد وعودٍ لا يقين فيها إلى أن تعود مؤسّسات الدولة إلى سيرها الطبيعي، وفق أحكام الدستور. ومن الإشارات المهمّة أنّ الأوامر التي أصدرها حتّى كتابة هذه السطور لم يذكر فيها رئاستَه النيابة العموميّة وتجميدَ نشاط البرلمان وإسقاطَ حصانة أعضائه، وأكّد للوفود التي استقبلها حرصه على استقلال القضاء وفصل السلطات وحفظ الحرّيّات وعودة المؤسّسات المنتخبة. وأصدرت سبع نقابات ومنظّمات بيانا تبنّت فيه مطالب الشعب، ودعت جميع القوى السياسيّة إلى معالجة القضايا الخلافيّة بالحوار، وأكّدت ضرورة احترام الحريّات العامّة والفرديّة، ومدنيّة الدولة، واحترام الدستور، واستقلال القضاء، واحترام حرّيّة التعبير والإعلام والصحافة، وحذّرت من التفرّد بالسلطة. وتمسّكت بجميع مكتسبات الثورة التونسيّة. ودعت رئيس الجمهوريّة إلى ضبط خريطة طريق وفق روزنامة واضحة لا تتجاوز ثلاثين يوما، وتكون "بصفةٍ تشاركيّة مع كلّ القوى المدنيّة تتعلّق بالقضايا المستعجلة، كمحاربة فيروس كورونا والشروع في مراجعة القانون الانتخابيّ والنظام السياسيّ ومكافحة الفساد"، وأعلنت "تكوين لجنة عمل مشتركة لمتابعة تطوّرات الوضع السياسيّ في البلاد، ولإعداد تصوّر لخريطة طريق تضمّ المحاور المستعجلة، يتمّ مشاركتها مع منظّمات المجتمع المدنيّ، وتقديمها للرأي العام ولرئيس الجمهوريّة". وإذا أضيفت إلى هذا البيان بيانات الأحزاب الرافضة للانقلاب، وتصريحات أغلب أساتذة القانون الدستوريّ (القرارات انقلاب وخرق للدستور)، وما بدا في أوامر الرئيس من تعديل للهجته المتشنّجة أنه أمكن فتح حوارٍ يجرّد الشعبويّة من سلاحها، ويمنع الرئيس من التسلّل من التدابير الاستثنائيّة إلى الاستبداد الدائم، ويكون منطلقا جديدا للتجربة الديمقراطيّة.