ليس صالون هدى
بعد نهاية حرب الخليج في 1991، توجّهت من مكان إقامتي ودراستي حينها في عمّان إلى فلسطين. كان الإحباط يملأ الجو من مآلات الوضع العربي. فلسطينيّاً، وعلى الرغم من الإحباط، كانت مساعي الوقوف مجدداً تملأ المكان؛ كان بعض من في الخارج من كوادر حركة التحرّر يواصل التواصل مع الداخل. وشاهدت، عند وصولي، بعيني، كيف تحاول آلة الاحتلال الإسرائيلية بجبروتها منع توزيع بيان القيادة الوطنية الموحدة (قاوم)، الذي يتضمن برنامج المقاومة الشهري، فينتشر الجنود بين البيوت وفي الأزقة ساعاتٍ لمنع التوزيع، ثم فجأة يمرّ شاب صغير ملثم يضع البيان، المطوي بعناية أربع طياتٍ، أمام جدّتي فاطمة بثوبها المطرّز، وكانت تقف في شرفة منزلها المطلّ على ساحة ترابية فارغة، تتوضأ بإبريق ماء تحمله. توقفت مُتفاجئة، ثم رفعت يديها إلى السماء "الله يحميكم"، وكنت أشاهد المشهد.
قريب وصديق يعلم ولعي بالقراءة، أحضر لي كتابين، كلاهما ممنوعان، يُوزّعان ضمن خطة توعية من كوادر المقاومة، أحدهما عن سيرة الشهيد خليل الوزير، والآخر عن فتاة اسمها أسماء. كان توزيع الكتابين جزءاً من منظومة الانتفاضة وماكينتها، تماماً مثل الكُتّيب الذي أعطاني إياه شاب في الجامعة الأردنية، يشرح بالتفصيل ما قد يتعرّض له شاب في طريقه إلى فلسطين بعد سنوات من الغياب من تحقيق على "الجسر" من مخابرات الاحتلال، وألاعيب التحقيق. قرأت الكتابين ليلاً وأنا أسمع رصاص جنود الاحتلال يطارد شباب الانتفاضة الذين كانوا لا يزالون يرمون حجارتهم في وجه عدّوهم.
قصّة أسماء هي لفتاة يحاول عميلٌ يُدعى مازن ف، بواسطة "صالون شعر"، إيقاعها في دائرة العمالة بعد تخديرها وتصويرها عارية. يروي الكتاب كيف وقع العميل في مستنقع العمالة، ويصوّر ما حدث للفتاة (غير المتزوجة)، التي قرّرت كتابة ما حدث معها في رسالة، وتوضّح تفضيلها الموت على العمالة، وعلى "الفضيحة" الاجتماعية. انتحرت فعلاً، وجرت تصفية العميل بعد ذلك. أذكر أني استأت وحزنتُ، لأنّ الفتاة اضطرّت إلى الموت أو قرّرته، واعتبرتُ هذا خللاً في المجتمع والمنظومة الوطنية. لكن الكتاب عن رفض العمالة، وهزيمة العميل في النهاية، وتوزيعه (الكتاب) ضمن منظومة وطنية.
في "صالون هدى"، لا يوجد بطل، أو خير، أو شجاعة، أو نزاهة، أو مبدأ
يثور الآن مجدداً جدل عن فيلم جديد، هو "صالون هدى"، يتناول القصة نفسها، ولكنه يعطيها بُعداً آخر، يجعلها في زمن "فيسبوك" وجدار الفصل العنصري (المبني نحو عام 2002). كاتب الفيلم ومنتجه ومخرجه الشخص نفسه الذي صنع أفلاماً جدلية سابقاً؛ هاني أبو أسعد. والجدل ليس بشأن قضية سياسية حقيقية، أو موقف اجتماعي خلافي، بل بسبب نوع من التسليع الجندري (commodification) في الفيلم القائم عبر تحويل العميل الذكر في القصة الأصلية إلى عميلة امرأة (مازن يتحوّل إلى هدى)، وتقديم مشهد تعرية الفتيات وتصويرهن مع شاب. وثانياً، بسبب اختزال الفيلم الموضوع الفلسطيني في تناقضات وشؤون فلسطينية اجتماعية وثقافية داخلية، مع تغييب سياق الاحتلال الإسرائيلي، وهذا أخطر ما في الفيلم، حيث لا يظهر على الشاشة أي إسرائيلي. وهذا يمكن فهمه، من ضمن أمور أخرى، لأنّ أي تقديم سلبي مباشر لإسرائيل يهدّد التمويل، ويهدّد عرض الفيلم غربياً، ويهدّد بحملة رفض إسرائيلية من جمعيات متخصّصة. الفيلم، بحبكته ومشاهده، غير معدّ لدور السينما العربية، أو لتقديم القضية الفلسطينية بجوانبها، ويعتمد على المشاهد الغربي الملتزم بإسرائيل، وعلى مشاهد "السوشيال ميديا"، بما في ذلك ما قد يحقّق دخلاً من هذا الاتجاه، ويقدّم رسالة سلبية عن كل الفلسطينيين، ويدّعي أنّ الاحتلال "خلف الجدار".
"صالون هدى" وغيره من نشاطات ثقافية وفنية وأكاديمية تنتشر الآن تلتزم أو تتفق مع المعايير الغربية الرافضة لمجرّد نقد إسرائيل، وتعتبر ذلك بمثابة "لاسامية" مرفوضة، وتلغي أي دعم مالي لا يلتزم بذلك. هذا مع رغبةٍ غربيةٍ واضحةٍ بتصوير المسألة الفلسطينية قضية داخلية في "الجينات" الاجتماعية والثقافية، وإلغاء نقاش المضمون الإسرائيلي في هذه المسألة أو تجاهله أو تأجيله، ويجرى تمويل البرامج وفق هذا الشرط. في الفيلم لا ترى أي إسرائيلي أو جندي للاحتلال، ولا تلمحه حتى عن بعد، وتُصبح "المسألة" بين الفلسطينيين أنفسهم وحسب.
القصة الحقيقية احتلال ومخابرات وإنسانة فضّلت الموت على العمالة
فيلم فريد غريب، لا يوجد فيه شخصية إيجابية واحدة، سواء رجل أو امرأة، فالأفلام في العالم تتحدّث عن نموذج ما للبطولة أو النزاهة بوجه الشر، أما في "صالون هدى" فلا يوجد بطل، أو خير، أو شجاعة، أو نزاهة، أو مبدأ.
القصة الحقيقية قصّة احتلال ومخابرات وإنسانة فضّلت الموت على العمالة وعميل جرت تصفيته. أمّا المخرج المنتج فحوّل الرجل العميل إلى امرأة، وجعل العمالة في سياق انتقام المرأة من قمع الرجل، وجعل الفتاة تقبل العمالة، بعد فشل محاولة الانتحار. القصة الأصلية قصة الرفض والمقاومة من الضحية ضد احتلال خارجي، وضمن منظومة فعل وطني جمعي. لا ترى في الفيلم الاحتلال وجنوده، بل لوم الضحية طوال الوقت، وتظهر مليئة بالعيوب والضعف، أمّا الجاني فلا مساس به.
في الأصل، هي قصّة الفتاة المقاوِمة، والشعب المقاوم ضد الاحتلال، في الفيلم يتحوّل الأمر إلى قصة المرأة وجسدها والرجل الضعيف المهزوز، ويصبح جميع المجتمع "صالون هدى"، والحقيقة أنّه ليس كذلك أبداً.