ماذا عن المواقف؟
يمكن أن يقال، بكل ثقة وراحة ضمير، إن العالم ما زال يعتمد، وبشكل أساسي، على مصادر الطاقة التقليدية الأحفورية، بمعنى أن النفط هو عصب التحرّك الاقتصادي الذي يقود بدوره الحركة السياسية.. من السهل الوصول إلى هذا الاستنتاج مع ما تابعه العالم من مشاهد للرئيس الأميركي، جو بايدن، يحط في السعودية، ويعانق ولي العهد محمد بن سلمان، متخطيا تصريحات سابقة له، شديدة العدائية، أطلقها تعقيبا على اغتيال الصحافي جمال خاشقجي. ويمكن أن تتعزّز هذه الفكرة مع مشاهدة بن سلمان نفسه يزور أوروبا، ويلقى حفاوة مبالغا فيها في باريس إلى جوار الرئيس إيمانويل ماكرون الذي يبدو فخورا بملاقاته، غير ملتفتٍ لأصوات من منظمات حقوقية وإنسانية، قدّم بعضها بلاغات وطلبات توقيف بحق بن سلمان الذي بدا متمتعا بحصانة قوية! تُنحّي الدول، وخصوصا الديمقراطية منها والتي تتمتع بعراقة "أخلاقية"، القضايا الإنسانية والحقوقية جانبا، إذا ما ظهر أي خطر يتهدّد اقتصادها، أو ما يسبّب انتهاكا للعادات اليومية للمصوّتين فيها. وتحت هذه العناوين، تمت تنحية جثة خاشقجي، وتصدَّر المشهد الخوف من تدنّي توريدات الطاقة من روسيا، ولا يوجد ما يمكن أن يسد جوع السوق للطاقة إلا السعودية، صاحبة أكبر احتياطي نفطي على ظهر الكوكب.
أصيبت ألمانيا بالرعب، عندما أغلقت روسيا صنبور نورد ستريم بعض الوقت، وها هي الآن تعود إلى الشعور ذاته، بعد أن تم تخفيض كمية الغاز المارّة عبره إلى 20%، ويطرح هذا التخوف انطباعا بسوء النموذج الاقتصادي الألماني نفسه الذي تطوّع في وقتٍ من الأوقات لإنقاذ اقتصاد الاتحاد الأوروبي، بعد أن أصيبت بلدان الجنوب بانتكاسةٍ كبيرة، فدفعت ألمانيا حينها الفاتورة، واليوم اقتصادها ذاته يشعر بالخطر، بعد أن فقد الشريان الوحيد الرخيص، الذي كان يعتمد عليه، والقادم من روسيا. سابقا، وفي غمرة غرور ألمانيا بقوة اقتصادها، أغلقت سلطاتها كل مصانع الطاقة التي تعتمد على الفحم، وتعهدت بإغلاق المصانع التي تعتمد الطاقة الذرية مع نهاية هذا العام، لكنها الآن تفكّر بإعادة افتتاح المصانع الفحمية، وتمديد صلاحية محطات الطاقة النووية. وفي حال ظهور ألمانيا بمظهر الدولة التي تتضوّر، فسينعكس ذلك على القارّة الأوروبية كلها، نظرا إلى موقع ألمانيا الاقتصادي فيها، وقد يشكل هذا فرصة مناسبة لفلاديمير بوتين، لإظهار حبوره بما وصلت إليه أوضاع الدول التي تقف في وجه غزوته الأوكرانية، وقد تكون مناسبة ليفتتح خط الأنابيب الثاني المارّ عبر البلطيق (نورد ستريم 2)، والذي ترفض ألمانيا وضعه قيد التشغيل، وقد عرضت روسيا بالفعل استئناف إمداد الغاز عبره بعد توقف الخط الأول.
تلهث دول القيادة إلى تجنب كارثة اقتصادية، مع التأكيد على استمرار العقوبات على بوتين، ليبقى في جحره وحيدا، وبسبب لهفتها للإبقاء على صنبور طاقة رخيصة مفتوحاً، نحَّت جثة خاشقجي جانبا، وطوت القضية كي لا تلوث إعادة تأهيل بن سلمان، وتسويقه رجلا عصريا من جديد في سبيل استدرار "شهامته" العربية، ليعوّض كل النقص الذي يتسبب به توقف نفط بوتين وإيران .. تحاول دول الغرب أن تخرج من فخّ الاعتماد على مصدر وحيد للطاقة، فالدرس الروسي كان شديد البلاغة والتأثير، ولكن اللجوء إلى السعودية قد يكون تكرارا للفخّ ذاته، فهو في الواقع اعتماد مصدر وحيد للطاقة من جديد، وقد يكون من الأفضل اعتماد برامج أكثر جدّية في تطوير المصادر الدائمة للطاقة الشمسية وطاقة الرياح، وربما تشكّل الطاقة النووية بديلا، رغم محاذيرها الجانبية الخطيرة، فحادثة المفاعل الياباني ما زالت طازجة، وآثار حادثة تشيرنوبيل تعيش في الأجواء الأوروبية. هذا بالطبع لا يبرّر الاعتماد على الحلول القصيرة والسهلة والموضعية، وهي في الواقع قد تفتح أكثر من جرح أو تدير الظهر لملفاتٍ يعتقد العالم أن قضية الطاقة أهم منها.