ماذا يحمل حفيد كيسنجر في حقيبته؟
لا يأتي وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، إلى المنطقة، ويزور عواصمها العربية الخمس، إلا إذا كان ثمّة مأزق تنحشر فيه إسرائيل وتريد الخروج منه عبر بوابات عربية، وذلك ما حضر بكثافة في زياراته الأربع السابقة منذ بدء العدوان الصهيوني على قطاع غزّة، في الثامن من أكتوبر/ تشرين الأوّل من العام الماضي.
يحضر بلينكن إلى المنطقة بوصفه ذلك اليهودي الصهيوني المخلص للكيان الصهيوني قبل أن يكون وزيرًا لخارجية الولايات المتحدة، وبالتالي هو لا يحمل حقيبته ويتوّجه إلى المنطقة إلا لتحقيق مصلحة للاحتلال تتطلّب وجوده ومروره على الأطراف الفاعلة في الصراع، وها هو يتنقل مكوكيًا من الرياض إلى القاهرة فالدوحة ثمّ تل أبيب ورام الله في ظلّ ما يُقال إنّها صفقة تهدئة جرى التوّصل إلى إطار لها في باريس، وتريد إسرائيل أن تتحكّم في مخرجاتها.
قد يطلق بلينكن بعض تصريحات تبدو على غير هوى نتنياهو وحلفائه من عناصر حكومة الاحتلال من اليمين المتطرّف، لكنّه في كلّ الأحوال يتحدّث من وضعية الخائف على الكيان والأعرف بمصالحه والأكثر حرصًا عليها، كما لو كان أحد رموز المعارضة التي ترى أنّ سياسات نتنياهو والجنرالات وقيادات الصهيونية الدينية تعرّض مستقبل الاحتلال للخطر، وتنتج عقبات في طريق توسيع محور التطبيع العربي، والذي هو بنظر الإسرائيليين، من اليمين إلى اليسار، أهم وأكثر فائدة من القنبلة النووية.
في الإجمال يمكن اعتبار الموقع الأهم في البنية السياسية للاحتلال الصهيوني، هو منصب وزير الخارجية الأميركي، وبدرجة أقل مستشار الأمن القومي الأميركي، منذ حقبة الرئيس نيكسون والوزير كيسنجر حتى الآن، مع بايدن وبلينكن وقبلهما ثلاثي (ترامب - بومبيو ـ كوشنر). لكن هذا الموقع الخطير لم يعلن عن عقيدته الصهيونية محورًا لحركته السياسية في المنطقة على هذا النحو من الوضوح إلا مع بلينكن ومثله الأعلى وقدوته، الجد كيسنجر، الذي رحل في الأسبوع الأوّل من العدوان الإسرائيلي الحالي، إذ سلك كلاهما تحت شعار "مصلحة إسرائيل قبل كل شيء" حتى قبل أميركا. وفي ذلك تحدّث سفير الولايات المتحدة السابق لدى الكيان الصهيوني، مارتن إنديك، في كتابه الصادر 2021 تحت عنوان "سيد اللعبة" في حوار مع صحيفة جيروزاليم بوست لمناسبة صدوره، فكشف أنّ الرئيس الأميركي، ريتشارد نيكسون، قد أوضح لوزير خارجيته كيسنجر أنّه لا يثق به في التعامل مع إسرائيل، وبالتالي حاول استبعاده من التعامل مع ملفات الشرق الأوسط. بل إنّ نيكسون كان كثير الشكوى لموظفي إدارته، ولوزراء الخارجية العرب، وحتى للسفير السوفياتي، من انحياز كيسنجر لإسرائيل، والدور الذي لعبه في حماية الدولة اليهودية من الضغط الأميركي.
الصحيفة الصهيونية التي أجرت الحوار مع مارتن إنديك على أنّه زميل متميز في مجلس العلاقات الخارجية وسفير أميركي سابق لدى إسرائيل، ومساعد وزيرة الخارجية لشؤون الشرق الأدنى، ومساعد خاص للرئيس كلينتون. وسبق أن شغل منصب المبعوث الخاص للرئيس أوباما للمفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية من يوليو/ تموز 2013 إلى يونيو/ حزيران 2014.
أهم ما يكشف عنه مارتن إنديك بعد دراسته آلاف الوثائق والأوراق الخاصة بمسيرة عمل هنري كيسنجر في الخارجية، أنّ الأخير لم يكن داعية للسلام أو وسيطًا ساعيًا له، بل كان قبل ذلك وبعده، صهيونيًا مخلصًا لإسرائيل، قضيته الأساسية هي تثبيت أوضاع الشرق الأوسط، تحت الهيمنة الأميركية، وبما يحقّق المصلحة الإسرائيلية.
بل أنّ كيسنجر، وكما يؤكد إنديك "نظر إلى السلام بتشكّك كبير، من واقع تجربته الخاصة وخبرته في دراسة التاريخ، حيث توّصل إلى الاعتقاد بأنّ السعي لتحقيق السلام يمكن أن يزعزع استقرار النظام في المنطقة، وهكذا بالنسبة له، كان السلام مشكلة وليس حلاً".
يقول إنديك إنّ استراتيجية كيسنجر للمفاوضات كانت تقوم على مبدأ "الأرض مقابل الوقت" وليست "الأرض مقابل السلام"، وذلك من أجل إنهاك العرب، في مفاوضات لا تؤدي إلى شيء، سوى إتاحة الوقت لإسرائيل لتقليل عزلتها وزيادة قوتها.
أخشى أن يتفوّق الحفيد بلينكن على الجد كيسنجر في هذه الجولة من الصراع.