ماكرون .. أكثر من تراجع وما يشبه الاعتذار
سواء كان الرئيس الفرنسي، ماكرون، هو الذي ذهب إلى "الجزيرة"، أو كانت القناة هي المبادرة بالذهاب إليه .. بصرف النظر عن أيهما الطالب وأيهما المطلوب، وبعيدًا عن معرفة من المدعو ومن الداعي، فإن دواعي إجراء المقابلة التلفزيونية كانت متوفرة بكثافة.
بالإجمال: هناك حدث إعلامي وسياسي شديد الأهمية والتأثير قد وقع، حيث شاهدت حوارًا أجرته محطة تلفزيونية حقيقية، مع شخصٍ توقف عن كل طيشه ورعونته وجل غروره واستكباره، وتذكَّر أنه رئيس جمهورية، وليس زعيم تيار عنصري متعصب.
قبل بث حوار إيمانويل ماكرون على شاشة قناة الجزيرة، نشرت بعض تغريدات تحمل مقتطفات من المقابلة، بدا منها أن الرئيس الفرنسي في أزمة، ربما كانت انعكاسًا لأزمةٍ تعصف بفرنسا نفسها، كان الرئيس أحد أهم صانعيها، على مدار سنوات، من خلال تصريحاتٍ تفتقر إلى اللياقة والكياسة.
ولكن أبرز ما تلمسه في مفردات ماكرون المنتقاة بعناية شديدة هو أنك بصدد لغة وأداء مختلفين تمامًا عما ظهر عليه خلال اشتعال الأزمة، إذ استعدّ جيدًا لكي يطل على الجمهور في هيئة رئيس الجمهورية الفرنسية، متخليًا عن النزق والعصبية، ليكون أكثر هدوءًا واتزانًا، وهو يخاطب المشاهد، المسلم بالأساس، بلغةٍ تصالحية، فيها كثير من التودّد، الذي يصل حد الاستجداء أحيانًا، فيما يشبه الاعتذار، وإن لم يعتذر على نحو صريح ومباشر.
إذن، هناك حوار تلفزيوني أحدث دويًا هائلًا في أرجاء الميديا العالمية، اشتبك معه الجميع، من مداخل متباينة، سواء الذين يحبون "الجزيرة" أو يكرهونها .. أو الذين مع استمرار المقاطعة أو الذين يرون أنها حققت المطلوب، أو الحد الأدنى مما هو مطلوب، وتفتح المجال لمزيدٍ من العمل المدروس لمعالجة قضية الإساءة للرموز الدينية من جذورها.. أو الذين يتخذون المقاطعة وسيلة، أو أولئك الذين يرونها غاية وهدفًا بذاتها.. أو من يريدون إطفاء هذا الحريق بشكل محترم، أو يريدونه مشتعلًا إلى ما لا نهاية.
الكل أدلى بدلوه، محللًا ومفسرًا ومعترضًا وموافقًا، لتبقى الحقيقة المؤكّدة أن الحوار فرض نفسه على الجميع، وهو في ظني يعد أهم حوار تلفزيوني منذ فترة طويلة، إذ لا تحتفظ الذاكرة بحواراتٍ، على قدر من الأهمية، انتظرها الناس وتفاعلوا معها، إلا في النادر، كما حصل في لقاء رئيس وزراء لبنان، سعد الحريري، عندما كان رهينة في الرياض، مع المذيعة بولا يعقوبيان على شاشة تلفزيون"المستقبل" خريف 2017.. وبعد ذلك كان حوار الجنرال عبد الفتاح السيسي مع محطة سي بي إس الأميركية 2019، والذي حاولت السلطات المصرية بكل سبل منع إذاعته بعد تسجيله.
في المحصلة، لا يمكن لمنصفٍ أن يتجاهل أن الحوار بمثابة خبطة صحافية ناجحة، على مستوى الشكل والمضمون. وأزعم أن العمل الصحافي الناجح هو ذلك الذي تستوقفك كل تفصيلة من تفاصيله، من طريقة الأداء إلى منطوق الأسئلة ومنطق الأجوبة، فتختلف أو تتفق، تشيد أو تستهجن .. ذلك كله يعني أن حوار الزميل عياش دراجي مع ماكرون، في هذه اللحظة الاستثنائية، فرض نفسه حدثًا أول على الجميع، بما في ذلك منابر إعلام عبد الفتاح السيسي التي تعيش في كوكب آخر، والتي تناولت الحوار، من دون أن تشير إلى مصدره ومكانه، ليصبح محض "تصريحات تلفزيونية للرئيس الفرنسي في لقاء ما، على قناة ما، تبث من مكان ما بالكرة الأرضية".
في النهاية، تحوّل كل هؤلاء إلى مستهلكين لما أنتجته وسيلة إعلامية، اتفاقًا أو اختلافًا، والمدهش أنه في اللحظة التي كان الرئيس الفرنسي فيها يَمثل (بفتح الياء وضم الثاء) أمام مذيع "الجزيرة"، مدافعًا عن نفسه، قريبًا من الاعتذار، تحت ضغط المقاطعة الشعبية، كانت صحيفة "الأخبار المسائي"، وهي حكومية مصرية، تهرول إلى زعيمة اليمين الفرنسي المتطرّف، مارين لوبان، لكي تستنطقها في حوار موسع ضد المهاجرين المسلمين، وضد فكرة المقاطعة الاقتصادية الشعبية، وتصفق لخطابها العنصري البغيض.
أسوأ من ذلك، أن أحدًا لم يعد تشغله فكرة الامتياز المهني أو إشباع نهم المتلقي للمعرفة، ولو من باب المنافسة الإعلامية، ولك أن تتخيل أن مقر مشيخة الأزهر يقع في وسط القاهرة، ومع ذلك لم تفكر صحيفة أو محطة تلفزيونية مصرية واحدة في إجراء حوار مع الإمام الأكبر، صاحب الموقف الأكثر نصاعة واحترامًا ضد الإسلاموفوبيا في طورها الأكثر شراسة وعنصرية.