ما بعد التصهين: نتنياهو صانع السعادة
تخيّل أنّ رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، يحيى السنوار، وقائدها في مقاومة الاحتلال، تلقّف عرضاً إسرائيليًا عبر ثلاثي الوساطة، يتيح له ممرًاً آمناً للخروج من غزّة إلى أيّ مكانٍ يعيش فيه، في مقابل الإفراج عن الأسرى الصهاينة، ماذا سيقول الدجاج الذي يصيح طوال الوقت ضدَّ مشروع المقاومة عن هذه الخطوة حال تنفيذها؟
أغلب الظن أنّ كلّ الأصوات الناطقة بلسانٍ عربيٍ مبين وفكرٍ صهيوني مكين، والتي كانت تطالب المقاومة بالكفِّ عن المقاومة لكي يعيش شعبُ غزّة في سلام وأمان، سوف تنسى صياحها القديم، وتبدأ في العزف على آلاتِ السخرية من الشخص الذي باع مقاومته لقاء أمانه الشخصي، والسخرية من فكرة المقاومة ذاتها والشماتة في انكسارِ مشروعها.
المعروض على يحيى السنوار، بالفعل لا بالتخيّل، هو مقترح صهيوني جديد، نقله الجانب الأميركي إلى حركة حماس التي لفظت هذا الهراء، وردّته في وجوه حامليه، قائلةً على لسانِ الناطق باسمها إنّ "ما يحاول الاحتلال ترويجه عن خروج قيادات الحركة، ليس له مكان ووجود في أجندة حماس، وشعبنا، ومقاومتنا الباسلة"، وهو ردّ فعلٍ طبيعي ومنطقي، لا يمكن تصوّر خلافه من مقاومةٍ تقدّم كلّ يومٍ دروسًاً في الصمود والتضحيّة من أجل قيمةٍ أسمى وغاية أنبل لا يدركهما أولئك الملتصقون بمقاعد الفرجة والاستماع.
ما يجري على المقاومة في غزّة هو ما تجده مع محور المقاومة كلّه، من لبنان إلى العراق إلى اليمن، حيث الفحيح الصادر من المُتصهينين بوعي والمتصهينين لا إراديّاً، لا يتغيّر، مزيجًا من السخرية من جدوى المقاومة إذا وجّهت ضربة للعدو، والشماتة فيها إذا تلقت ضربة منه. وفي الحالتين، هي متهمة بالتهوّر والانتحار والانفراد بقرارِ التصدّي للعدو من دون أن تذعن لفوارق القوّة الماديّة بينها وبينه، وهو ما يتجسّد بوضوحٍ في جملة المواقف الصادرة عن حظائر الدجاج الشامت في المقاومة اللبنانية بعد عدوان "البيجر" الذي شنّه العدو الصهيوني على الشعب اللبناني كلّه، قبل أن يكون مُستهدفًاً مقاتلي حزب الله.
ارتدى بعضهم الأحمر فرحًا وابتهاجًا بما أصاب لبنان فأوقع عشرات الشهداء وآلاف الجرحى، مطلقاً مهرجانات من الشماتة الجماعيّة الصاخبة، وحفلات التشفي بخلاعةٍ منقطعةِ النظير، مبرّرًاً كلّ هذا التعهر القيمي والأخلاقي، والتحلّل من كلِّ الاعتبارات القوميّة بأنّ الصهيوني ثأر لدماء شهداء الثورة السورية.
غير أنّ المفارقة المُشينة هنا أنّ الذين يفرحون بهذا "الانتصار الصهيوني" على فصيل عربي يقاوم ببطولة وشرف، لا يتورّعون عن مطالبةِ المقاومة بالرد، بالطريقة التي يريدونها، وفي المواعيد التي يحدّدونها، ليس لأنّهم يطلبون الثأر من الإسرائيلي، بل لكي يسخروا من المقاومة، ردّت أم أرجأت الرد، ففي الحالتين هي بالنسبة لهم العدو الاستراتيجي، من دون أن يخجلوا من ربط هذا كلّه بالانحياز لثورات الربيع العربي التي حاربها طغاةٌ مستبدّون ثم جاء الصهيوني لينتصرَ لها.
أسوأ من ذلك أن يجدَ الفلسطيني المقاوم، أو الداعم للمقاومة، نفسه مُداناً على إعلان تضامنه مع المقاومة اللبنانية أو اليمنية، فينزلق نفرٌ من هؤلاء "الثوريين المصفقين للإجرام الصهيوني" إلى الإعلان بوضوحٍ كامل عن أنّ قضيّة فلسطين ليست الأغلى في سلّم أولوياتهم، وأنّ الدم الفلسطيني المراق في غزّة والضفة ليس أهم من الدم العربي المسفوك في دول الربيع، وبالضرورة يصل هذا المنطق إلى اعتبار الاستعانة بإسرائيل لهزيمة خصوم الربيع العربي لا تختلف عن استعانةِ محور المقاومة بإيران، وهو منطقٌ لا يسيء لفلسطين وللمقاومة فحسب، بل يحتقر الجوهر الأخلاقي لمشروع الربيع العربي كلّه، ويلوّث مفهوم الثورات التي وضعت فلسطين في القلب من مشروعها الذي انطلق في العام 2011.
هذه الشماتة والفرحة بذلك "الإنجاز الإسرائيلي" ضدّ المقاومة اللبنانية، إن لم تكن نوعاً من "تصهين الوجدان" وشكلاً من أشكال التطبيع مع الإجرام الصهيوني، فماذا تكون إذن؟
مرّة أخرى، ولن تكون أخيرة، الأخطر من احتلال الأرض احتلال الروح، والأسوأ من التطبيع المادي هو التطبيع بالقلب، فلنعزل المتصهينين الذين بيننا، قبل أن نفكّر في طرد الصهاينة من فلسطين، والطغاة من بلادنا.