ما بعد عباس .. حرب شرعيات طاحنة
ليس في عمر السابعة والثمانين، وهو عمر الرئيس الفلسطيني محمود عباس، ما يُراهن عليه مستقبلاً، فصاحبه ينتمي إلى الماضي، وحتى لو كانت صحته جيدة، والرئيس عباس ليس كذلك. في هذه الحالة، يجب تعيين نائب يأتي بديلاً في حالة الوفاة، أو على الأقل تكريس آلية سياسية قانونية تأتي بالرئيس الجديد. فلسطينياً، لا هذه موجودة ولا تلك.
تنصّ كل دساتير العالم وقوانينها الأساسية على آلية لملء المنصب الشاغر في حال وفاة الرئيس فجأة. وهو ما نصّ عليه القانون الأساسي للسلطة الفلسطينية، بأن رئيس المجلس التشريعي يشغل منصب الرئيس، في مرحلة انتقالية. وهذه الآلية التي جرى اعتمادها بعد وفاة الرئيس ياسر عرفات، عندما شغل رئيس المجلس التشريعي، روحي فتّوح، وهو العضو في حركة فتح، منصب رئيس السلطة، إلى حين انتخاب محمود عباس رئيساً جديداً. وما حصل في المرّة السابقة لن يحصل هذه المرّة، فلن يسمح أحد بأن يأتي عزيز الدويك رئيساً انتقالياً للسلطة الفلسطينية، وهو القيادي في حركة حماس، وآخر رئيس للمجلس التشريعي الفلسطيني، الذي حلّه الرئيس عباس عام 2018، معتبراً أن المحكمة الدستورية الفلسطينية هي التي فعلت ذلك، على أن تجري انتخابات جديدة خلال ستة أشهر، ولكن هذا لم يحصل، اعتبر عباس حل المجلس صحيحاً، وإجراء انتخاباتٍ جديدة فائضاً عن الحاجة!
بمقاييس البلاد العربية، شخصٌ في عمر الرئيس محمود عباس، كان قد تقاعد قبل 26 عاماً. وبمقاييس الدولة الغربية، لكان تقاعد قبل 22 عاماً. ولأن السياسة لا تقاعد منها في العالم كله، يستطيع المرء أن يستمرّ فيها، لكن عبر صناديق الاقتراع التي تختاره ليستمر في القيادة. أول وآخر مرة خاض فيها الرئيس عباس انتخابات، كانت في العام 2006، وجرى انتخابه فيها رئيساً للسلطة الفلسطينية أربع سنوات. وهذه الأربع سنوات انتهت منذ 13 عاماً، عاش بعدها الرئيس عباس على ذكرى هذه الانتخابات، بوصفها أعطته الشرعية مرّة واحدة وإلى الأبد.
عندما خلف محمود عباس الرئيس ياسر عرفات، جرى اعتماد آلية انتقال السلطة التي أقرّها القانون الأساسي للسلطة، من حلول رئيس المجلس التشريعي في منصب الرئيس خلال الفترة الانتقالية لانتخاب رئيس جديد. لم تعد الأوضاع السياسية التي سمحت بذلك قائمة، فقد جرت مياهٌ ودماء كثيرة في الساحة الفلسطينية، في مقدمتها الدماء التي سالت في الاقتتال الدموي في 2007، العام التالي للانتخابات، وأدّى إلى طرد "حماس" حركة فتح من قطاع غزة وسيطرتها عليه، وانقسام السلطة إلى سلطتين، سلطة "حماس" في القطاع وسلطة "فتح" في الضفة الغربية.
لم يعد هناك ما يربط حركة فتح، الشاغل الكبير للسلطة، سوى الرئيس عباس، فهو بات المادّة اللاصقة الوحيدة للسلطة ولحركة فتح ولمنظمة التحرير
أصدر الرئيس عباس، في بداية العام الماضي (2021)، مرسوماً رئاسياً نصّ على إجراء انتخابات تشريعية في 22 مايو/أيار التالي، والانتخابات الرئاسية في يوم 31 يوليو/تموز. لكن هذه الانتخابات، مثل الوعود السابقة لإجراء انتخابات، لم ترَ النور، بحجّة عدم سماح إسرائيل لسكان القدس بالتصويت في هذه الانتخابات. ولكن الحجة الحقيقية هي ما أظهرته الدعوة إلى الانتخابات من انقسام وتشظٍّ داخل فتح، جعل أطراف الحركة تتقدّم بثلاث قوائم انتخابية، الأولى القائمة الرسمية لحركة فتح، والثانية على رأسها الأسير مروان البرغوثي، والثالثة على رأسها ناصر القدوة وزير الخارجية الفلسطيني السابق. إضافة إلى قائمة التيار الإصلاحي، التابع لمحمد دحلان، والذي ما زال يحسب نفسه على حركة فتح. في ظل هذا التشظّي، لم يكن لحركة فتح المنقسمة على نفسها أي فرصة للنجاح في الانتخابات مقابل حركة حماس الموحدة، والتي حازت شعبية إضافية في الضفة العربية، بسبب ممارسات السلطة وفسادها.
على الرغم من كثرة المرشّحين لخلافة الرئيس الفلسطيني، إلا أن أغلب من لهم فرصة في الحصول على المنصب، لا يزالون صامتين، ويبقون صامتين حتى في أثناء الأزمات الصحية للرئيس الكهل، لأنه بات معروفا عن الرئيس عباس أنه شخصية انتقامية، في حال وجود تصريحاتٍ من قادة فتحاويين طامحين في منصب الرئاسة سيعاقبهم من دون ترّدد، ما يجعل الطامح يفقد الفرصة في الوصول إلى الكرسي الرئاسي، خصوصا أن هذا الكرسي سيشغله أحد قادة "فتح"، وبعيداً عن الآلية التي نصّ عليها القانون الأساسي، وسيجري الاعتماد على منظمة التحرير ومؤسّساتها المترهلة، لحل مشكلة شرعية الرئيس الفلسطيني الذي سيخلُف عباس، وبالتالي حركة حماس مستبعدة من منافسةٍ كهذه، مع قدرتها على المشاغبة في مثل ظرفٍ كهذا، والفصائل الأخرى دخلت في غيبوبة منذ زمن طويل.
غياب الرئيس عباس سينفجّر صراعاً داخلياً في حركة فتح بأسوأ الطرق، والكل سيعمل على تجميع أوراق القوة ليفوز بالمنصب
بعد الخراب والترهل الذي أصاب بقايا المؤسسات الفلسطينية التي تركها الرئيس عرفات خلفه، لم يعد هناك ما يربط حركة فتح، الشاغل الكبير للسلطة، سوى الرئيس عباس، فهو بات المادّة اللاصقة الوحيدة للسلطة ولحركة فتح ولمنظمة التحرير، وكل الكلام عن مؤسسات فلسطينية فارغ لا معنى له. وبغياب عباس، ستفقد المادة اللاصقة خاصيتها، سيما في لجم ألسن قادة "فتح" عن طموح الجلوس على كرسي الرئاسة، وستفتتح حركة فتح صراعاً شرساً بين كل الأطراف، من أجل الحصول على موقعي رئاستي السلطة الوطنية ومنظمة التحرير. ولأنه لم يعد هناك رمز من المؤسّسين لحركة فتح يمكن الالتفاف حوله، سيكون الصراع بين أبناء الجيل الثاني من حركة فتح الذين يعتبرون أنفسهم متساوين في الحقّ في الوصول إلى المنصب. وهو ما سيجعل هذا الصراع مدخلاً إلى مزيد من تردّي الوضع الفلسطيني بعد انهيار المشروع الوطني الفلسطيني، وتحوله إلى مشروع سلطوي، وإنتاج قادة أكثر إذعاناً لإسرائيل من عباس، لدورها المركزي في الموافقة على الرئيس الفلسطيني الجديد. فغياب الرئيس عباس سينفجّر صراعا داخليا في حركة فتح بأسوأ الطرق، والكل سيعمل من أجل تجميع أوراق القوة ليفوز بالمنصب، لكن هذا الصراع نفسه سيُشعل حرب شرعياتٍ فلسطينيةٍ طاحنةٍ في اليوم التالي لغياب الرئيس، داخل حركة فتح، وداخل الساحة الفلسطينية، فلن تقف "حماس" مكتوفة الأيدي، فهي فرصةٌ سانحة لها لإضعاف حركة فتح نهائياً. وبالتالي، نحن مقدمون على فوضى سياسية وادّعاءات شرعية متبادلة، ومخاطر لا نهاية لها من استقطابٍ داخلي سيتفاقم، كما تؤشّر العقليات القائمة في الساحة الفلسطينية. وفي مثل فوضى كهذه، لن يكون من مصلحة أحد العمل على إخراج الوضع الفلسطيني من متاهةٍ يمكن أن يدخل فيها ولا يخرج منها إلا مدمّراً. في صراع الشرعيات الذي سيولد في اليوم التالي لغياب الرئيس، سيكون إعلاناً نهائياً عن تحطّم المؤسسات التي حملت المشروع الوطني الفلسطيني خلال العقود الخمسة المنصرمة.