ما بين مصر السياح ومصر المصريين
كل شيء في مصر يجب أن يبدو مرتبا وجميلا من أجل الملك والحاشية والمهرجانات والمواكب الموجهة إلى الخارج. يمكننا أن ننفق مليارات في افتتاح متحف أو حفل نقل للمومياوات، أو بناء قناة جديدة هدية من مصر إلى العالم كما كان شعار افتتاحها، بل يمكننا أن نبني أكبر مجمع للسجون في العالم ونفتتحه في مشهد احتفالي سريالي، لم يسبق لأحد الملوك أو الرؤساء في الدول الحديثة أن فعله. كما يمكنك أن تقضي بقية حياتك في السجن لمجرد كتابة بوست أو نشر شيءٍ تعتبره السلطات مسيئا لسمعة مصر التي وضعت، أخيرا، استراتيجية وطنية لحقوق الإنسان، حتى ولو كان هذا الشيء المنشور معروفا لدى الصحافة العالمية وتقارير المؤسّسات الدولية التي تزوّدها الحكومة بهذه المعلومات.
مدينة الأقصر، دعونا نسميها مدينةً مجازا، لأنها حرفيا قرية توسّعت عشوائيا، وهي تحديدا تعبير فج عن تدهور مصر في المائة سنة الأخيرة، وعن التضارب الصارخ بين مصر السياح ومصر المصريين، فأنت، باستثناء شارع الكورنيش وطريق الكباش ومتحف الأقصر، بمجرّد أن تبتعد خطوات قدميك مائة متر ناحية أي شارع جانبي، سوف تجد نفسك في منطقة غاية في العشوائية، تشبه عزبة الهجانة أو خيرالله أو حواري إمبابة ودار السلام وبولاق والمرج وعين شمس خارج نطاق التقسيمات القديمة، حيث الإنتاج التجاري لبيوت هي علب صفيح تباع على الطوب الأحمر بأسعارٍ لم تعد زهيدة بالنسبة لدخولٍ متدهورة، والبؤس بادٍ على الخلق في معيشتهم ومبانيهم وكل تفاصيل حياتهم. لا نظافة ولا بلديات تعمل بجد ولا مستشفيات خارج نطاق مستشفيات السياح وأبناء الطبقة، ولا مدارس جيدة، ولا تاكسي يعمل بالعدّاد أو تعريفة، فكل شيءٍ خاضعٌ للتفاوض والفهلوة.
مدينة الأقصر تعبير فج عن تدهور مصر في المائة سنة الأخيرة
وتقارير الأقصر في مؤشّر التنمية البشرية والفقر خير دليل، إذ تحتل المدينة في تقارير الفقر ومؤشرات الدخل والإنفاق والاستهلاك مركزا شديد التدهور، على الرغم من التحسّن الملحوظ في قطاع السياحة في السنوات الأخيرة، كما تحتل المحافظة مراتب متدنيةً في مؤشّرات التنمية البشرية على مدار العقد الماضي، وهي لم تتحسّن كثيرا، بل تدهورت، والحديث هنا عن واحدة من أصغر محافظات الصعيد سكانا، وهي محافظة فصلت عن قنا حديثا.
ولو وجد مؤشّر ليقيس فقر الخدمات العامة فإنها بالتأكيد ستحوز ترتيبا متأخّرا جدا، على الرغم من أنها محافظة صغيرة سكانا، وتعتبر من المحافظات ذات النصيب العالي من الإنفاق العام من أجل عائدات السياحة والسائحين، وهذا وضعٌ مستقر منذ أيام الرئيس حسني مبارك الذي دشن هذا المشروع الخاص بتطوير طريق الكباش، بل إن تأخر إنهاء المشروع كل هذه السنوات ينبئنا عن تدهور الدولة المصرية ذاتها التي احتاجت أكثر من 11 عاما لاستكمال تطوير طريق بطول 2.7 وافتتاحه، كان مفترضا أن يفتتحه مبارك في مارس/ آذار 2011 بحسب تصريحات وزير ثقافته قبل الثورة بأقل من عام، فاروق حسني.
مع هذا كله، سيخرج عليك في مواقع التواصل الاجتماعي الـ"كيمتيون جدا، أبناء حزن إيزيس وفلسفة رع وعبثية آتون واكتئاب ست، الكباش الحزينة أبناء حورس الأربعة، حماة كيمت ما بعد الحداثة، الكلمات الأخيرة لكليوباترا قبل انتحارها والرعشة الأخيرة لرمسيس الثالث قبل اغتياله، قاطنو مصر الفقيرة من الحب المزينة بالكذب"، ليخبروك أن كل شيء على ما يرام، وأن فنادق المدينة كلها لم يعد فيها غرفة شاغرة، وهذا من إنجازات مثل هذه الاحتفالات، متناسين أن هذا الوضع، وفقا لتقارير وزارة السياحة، هو السائد، باستثناء عام واحد بعيد الثورة وعامين ما بعد 2013، وأن بلدانا مثل تونس تجتذب عددا أكبر من السياح بلا إمكانات أثرية تقارن مع ما في الأقصر وبسياحة شاطئية فقط، على الرغم من الاضطرابات السياسية. كما أن تركيا لا تمتلك معشار الإرث الأثري، وتشهد انتعاشا كبيرا لقطاع السياحة، من دون أن يعني هذا قدرة الدولة على وقف انهيار الليرة أو توفير مزيد من فرص العمل لشباب غاضب من نسب بطالة مرتفعة ومستمرة بالارتفاع وتضخّم يتزايد. لم تقدم على مثل هذا الإنفاق البذخ على أنشطة جذب السياح، على الرغم من وجود بنية تحتية وخدمات عامة متطوّرة لذلك الجذب.
لو وجد مؤشّر ليقيس فقر الخدمات العامة فإن الأقصر ستحوز ترتيباً متأخراً جداً، مع أنها محافظة صغيرة سكاناً
عليك أن تصدق أبناء كيمت هؤلاء الكباش، عندما يقولون لك إننا نستعيد أمجاد الفراعنة، وإن هذا كله سيعود حتما على البلاد بالخير والرخاء، من دون أدنى نقاش، كما أن عليك أن تصدّق أن الاقتصاد المصري ينمو بنسبة 10%، بينما معدّل البطالة الرسمي يتزايد من دون أدنى دخول لتقنيات إنتاج خارقة. لن يكون عليك أن تتساءل كيف تزايدت البطالة في مدن قناة السويس، على الرغم من إنشاء مشروع القناة الجديدة وإنفاق عشرات المليارات عليه. عليك فقط أن تتصرّف كواحد من العمال من فئة الأسرى والأغراب. لا يجب أن تدري ماذا تفعل، وتحركك العصا ويسوقك الجند، ولا يجب أبد أن تستحضر خصائص المصريين في مصر العليا كما تصفها رواية "عبث الأقدار"، وغيرها من روايات نجيب محفوظ.
بينما تنفق مصر السياح والخارج مئات المليارات على عاصمتها الجديدة وقطار "مونوريل" يربطها بالقاهرة الجديدة التي ستصبح قديمة، وقطار سريع لن يستقله، في الغالب، 1% من المصريين، سيربطها بالعين السخنة والعلمين الجديدة أو دبي البحر المتوسط كما يحبون أن يسموها، ومليارات على مواكب ملكية أشبه بالتي تصفها روايات نجيب محفوظ، فإن مصر المصريين ليس لديها ربع هذه المبالغ لتطوير التعليم أو الصحة أو نُظم الصرف لتفادي غرق المدن بمياه الأمطار المحدودة والمتوقعة كل عام، وستظل السيول تجرف بيوت الفقراء الملومين على سكناها، ليهديهم الرئيس منازل من جيبه يُحتفل بها في كل سيل. وسيظل أغلب سكان الأقصر وأسوان، الوجهتين السياحيتين العالميتين، غير قادرين على الوصول إلى القاهرة وخدمات العلاج والعمل فيها في أقل من 12 ساعة إن وصلوا سالمين، سيظلون يذهبون إلى القصر العيني في أسيوط أو القاهرة كلما احتاجوا علاجا، كما سيظلون كبقية المدن المصرية المليونية والأكثر كثافة وسكانا منهما، من دون شبكات مواصلات عامة مريحة للسكان والسائحين وجاذبة للسياح أكثر من المواكب، كما هو الحال في أغلب الوجهات السياحية العالمية من أفقر البلدان إلى أغناها وفي أقصاها نيوليبرالية إلى دولها الاشتراكية الباحثة عن دور للدولة.