ما وراء العودة إلى "سيناريو الدولة الواحدة"
شهدت الفترة الأخيرة صدور دراسات وأبحاث عديدة، بخاصة في مراكز الدراسات الغربية والأميركية، تقوم على مقاربة الحقوق الفلسطينية أو حل الدولة الواحدة، وهو طرح قديم - جديد، كانت تتبناه مجموعة من المثقفين، لكنه لم يحظ باهتمامٍ من أي طرف، وكان حينها يمثل "سيناريو فانتازياً"، في ظل تلك الشروط والسياقات التاريخية والسياسية، بخاصة مع ازدهار خيار المقاومة المسلحة من زاوية، واستمرار الأمل لدى أنظمة عربية عديدة بإمكانية تحقيق تسوية سلمية تؤدّي إلى قيام دولة فلسطينية على كامل الأراضي المحتلة في 1967. إلاّ أنّ المتغيرات العديدة التي حدثت لاحقاً، بخاصة مع انهيار معسكر اليسار الإسرائيلي وهيمنة تيار اليمين هناك على المشهد السياسي، وتصاعد القوة الاجتماعية له، ثم التراجع الملحوظ لدى الإدارات الأميركية المتعاقبة في تبنّي الخيار السلمي، بمعناه السابق، وخصوصاً مع إدارة الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، التي طرحت الصيغة النهائية لرؤيتها للتسوية عبر ما سمّيت صفقة القرن، وهي الرؤية التي تنزع أي معنى من المعاني الحقيقية للدولة الفلسطينية، وللحقوق السياسية للفلسطينيين، فضلاً عن المتغيّر الأكثر خطورة المتمثل بالاستيطان المتنامي في الأراضي المحتلة، وعدم وجود أي نزوع إسرائيلي نحو تفكيك المستوطنات، وتزايد تأثير الأخيرة في السياسات الإسرائيلية من خلال القوة الانتخابية ودعمها الكبير التيار اليميني هناك.
في ضوء هذه المتغيرات، عاد الحديث عن حل الدولة الواحدة، وأخذ هذا الخطاب يكتسب زخماً كبيراً، ويحظى بمؤيدين ومروجين من الفلسطينيين والأميركيين والغربيين، وقد أصدر مجموعة من الأكاديميين والدارسين الأميركيين كتاباً متخصّصاً بهذا الشأن "حقيقة الدولة الواحدة" (One State Reality)، شارك فيه فلسطينيون وأردنيون وأميركيون، ونشرت كذلك مجلة الشؤون الخارجية الأميركية (Foreign Affairs) ملفاً خاصاً لتوضيح هذه المقاربة وأبعادها وما تقدّمه من حلّ للصراع العربي - الإسرائيلي.
ينطلق أصحاب هذه المقاربة من فرضيات واقعية عديدة؛ أولاً انتهاء حلّ الدولتين وعدم إمكانية تطبيقه مع وجود المستوطنات في الضفة الغربية والتحولات الملحوظة في الوسط الانتخابي والسياسي الإسرائيلي. وثانياً، من "الأزمة البنيوية" في المشروع الإسرائيلي نفسه، من خلال ارتطامه بالديمغرافيا الفلسطينية، وتوريط "إسرائيل" بالوحل الذي وضعت نفسها فيه، عبر الإصرار على الإمساك بالأراضي، وإلزامها بالحقوق الإنسانية للسكان الفلسطينيين. وثالثاً، من خطورة وفاعلية مصطلح دولة الفصل العنصري (الأبارتهايد)، وطنينه في الأذن الغربية، وسهولة إسقاطه على الحالة الفلسطينية – الإسرائيلية. وبالتالي، هنالك "مستندات" قانونية وحقوقية وإنسانية صلبة وقوية لا تستطيع إسرائيل المراوغة معها، كما تفعل في موضوع الحل الفلسطيني. ورابعاً، يمكن تسويق مثل هذا الخطاب إنسانياً ودينياً وحضارياً، لتجنّب سيناريو صدام الحضارات والأديان، والقول بالتعايش بين بني الإنسان في مكانٍ متخم بالهويات الرمزية والدينية والروايات التاريخية.
في المقابل، يواجه هذا الطرح نقدا جوهريا وإشكاليات كبيرة، أبرزها اثنتان: أولاً غير مقبول إسرائيلياً، لأنّه بالنسبة للوسط اليميني في إسرائيل، وهو الوسط المهيمن بالكلية، يمثّل عملية انتحار سياسية، ويتناقض مع جوهر أطروحات هذا الوسط، وإذا لم يتم تبنّيه إسرائيلياً، فإنّه سيكون غير ذي فائدة، مهما كان هنالك ترويج له، لأنّ إسرائيل في نهاية اليوم أحد أقطاب الصراع، فضلاً عن اللوبي الصهيوني والنفوذ الإسرائيلي في السياسات الأميركية والغربية.
ثانياً، يقتضي هذا السيناريو شرطاً رئيساً مسبقاً يتمثّل بحل السلطة الفلسطينية، وتوريط إسرائيل في معادلة الضفة الغربية، وهو أمرٌ يتطلب قراراً استراتيجياً من السلطة والنظام الإقليمي العربي، وهذا واقعياً بعيد التوقع، فضلاً عن أنّ مثل هذا الحل قد يعطي إسرائيل فرصة لتنشيط عملية الاستيطان وقضم مزيد من الأراضي، بينما سيكون الرهان الفلسطيني مرتبطاً بتسويق فكرة الابارتهايد، إذا تجاوزنا الإشكالات الاقتصادية والقانونية والحالة الأمنية الفلسطينية والصراعات الداخلية التي قد تنفجر في أي لحظة، كما حدث في غزة 2007.
بالضرورة، لا يوجد خيار استراتيجي سهل أو مقنع للفلسطينيين في ظل الأزمة البنيوية الراهنة، وفي صراع متخم بالأبعاد الدينية والرمزية والتاريخية والحضارية، والشروط الواقعية الحالية، وهو أمرٌ يقتضي من المثقفين والأكاديميين الفلسطينيين عقد جلسات نقاشٍ معمّقة لقراءة الواقع وتحولات الصراع ومتغيراته ووضع تصوّرات لكل السيناريوهات والخيارات الممكنة، وما يرتبط بها من عوامل دولية وإقليمية وداخلية.