ما وراء خلاف المغرب والجزائر
بعد أن نالت استقلالا سياسيا عن فرنسا (1962) بعام ونصف العام فقط، اشتبكت الجزائر في مواجهات حدودية مع المغرب، سرعان ما تحوّلت إلى حرب مباشرة على طول الحدود بين البلدين، وتركزت أكثر حول المناطق التي اكتشف فيها النفط، فيما عرفت بحرب الرمال... منذ ذلك التاريخ، أعطت تلك الحرب القصيرة عنوانا للعلاقات بين المغرب والجزائر، والتي اتسمت بتوتر وحرب كلامية وتشهير حادّ. لم يستخدم السلاح ثانية، ولكن الإعلام والسياسة استُخدما بصورة مبالغ بها، واستمر الحال، إذ أعلن وزير الخارجية الجزائري، رمطان لعمامرة، يوم 24 أغسطس/ آب الجاري، قطع بلاده العلاقات مع المغرب.
اختارت الجزائر منذ الستينيات، حين كانت في أوج قوتها، وبدعم من بروباغندا الرئيس المصري جمال عبد الناصر، أن تلتحق بالاتحاد السوفييتي، وتستورد بوصفها بلدا "يساريا" جميع معدّاتها العسكرية منه، بالإضافة إلى عقيدة أيديولوجية خاصة ميزت بعض البلدان العربية في ذلك الوقت. كان خيار المغرب مختلفا، فوطّد علاقته بالغرب واستورد منه أسلحته وأيديولوجيته الخاصة. وكان التعامل مع إسرائيل من وجوه الخلاف فبينما أظهرت الجزائر موقفا حادّا ضد الاحتلال، سجّل التاريخ لقاءات سرّية وعلنية لملك المغرب الراحل، الحسن الثاني، بقادة إسرائيل، وفي وقت مبكر من الصراع العربي الإسرائيلي. كما تشكل قضية الصحراء الغربية الواجهةَ الأساسية في الخلاف بين البلدين، فتستضيف الجزائر قادة جبهة بوليسارو المقاتلة، وتدعمها سياسيا، فيما تقول المغرب إن الصحراء جزء منها... تعي الدولتان ثقلهما الديموغرافي والاقتصادي المتفوق مقارنة بدول المغرب العربي الأخرى. وترغب كل منهما بلعب دور في الفضاء المغاربي بما يتناسب وحجمها، لكن كليهما يستهلكان، منذ وقت مبكّر، طاقاتهما في الخلاف. وفشل اتحاد المغرب العربي في محاولة تذويب الفوارق بينهما، وقد تم إنشاؤه في العام 1985 وتجمدت أعماله في 1994، العام الذي تم فيه إغلاق الحدود البرية بين البلدين، بسبب عملية إرهابية شهدتها مراكش، وأعلن لاحقا أنها بفعل شبكة مغربية وغير محلية. ومنذ ذلك التاريخ، لم يسمع أحد عن هذا الاتحاد الذي أنشئ تحت مظلة عربية، ثم انطفأ من دون أن يُرى له منتوج سياسي واحد، وانهار على صدى تصاعد الخلاف بين البلدين.
لم تفلح تغييرات الربيع العربي الذي اجتاح المنطقة، وبدأ من جارتهما تونس، في زحزحة هذا الخلاف قيد أنملة. وقد شمل التغيير بلدين أساسيين في المنطقة، ودخل إلى الجزائر متأخرا، لكن نظام عبد العزيز بوتفليقة حافظ على تماسكه سنوات إلى أن نجح ثوار الجزائر في إزاحته، فجاء عبد المجيد تبون الذي رفع نبرة الانتقادات الجزائرية للمغرب، وتابع سياسة إغلاق الحدود البرية، ما جعل الحرب الباردة بين البلدين تحافظ على وتيرتها. ولم يتح التغيير السياسي في الجزائر مناخا تفاوضيا جديدا، أو انزياحا في المواقف التقليدية التي تحافظ على تراثها منذ الاستقلال.
يبحث البلدان عن أدوار إقليمية، وهذه العقيدة تبدو أساسية في سياستيهما، وهو ما يقف حاجزا أمام أي محاولةٍ للاختراق، فالخلاف يشكل بنية جوهرية في سياستي البلدين، ما يعني أن المشكلات الراهنة بينهما مرشّحة للبقاء ولمزيد من الترسخ، وقضية الصحراء من مظاهر هذا الصراع. يدرك البلدان بوضوح أن الخلاف لا يمكن أن يحل بالطرق العسكرية، فقد جربا ذلك مبكّرا، وفات الأوان لحسمه بهذه الطريقة، لكنه تحول إلى حالةٍ مزمنةٍ، جعلت الأطراف تفكّر في توظيفه للاستفادة، طالما أنه لا يوجد حل قريب له.. بشكل مؤسف، تعجز جامعة الدول العربية والاتحاد الأفريقي عن التدخل لحل النزاع، ويبدو أنّ الطرفين، المغربي والجزائري، "يحترمان" خلافهما! ويقدّمان ما يستطيعان لبقائه واستمراره أطول فترة ممكنة.