متى تتوقف الشعوب العربية عن الدهشة؟
أكثر ما يثير الدهشة هو الاندهاش مما يجري في تونس ومصر والسودان هذه الأيام، واعتباره تطوّرات دراماتيكية مفاجئة، فيما مقدّمات ذلك كله كانت واضحة أمام أعين الجميع، فلماذا إذن ادّعاء الصدمة أو الاستغراب؟
في السودان جنرال عسكري اسمُه عبد الفتاح البرهان، وفي تونس جنرال مدني اسمُه، قيس سعيّد، وكلاهما ينقلان من كتاب الجنرال المؤسّس لهذه المسارات المتشابهة في مصر واسمُه، عبد الفتاح السيسي، ويسيران على نهجه في خطين متوازيين: إعدام للحياة السياسية وإحياء للتطبيع الساخن مع الكيان الصهيوني.
في الخط الأول ينفذ، قيس سعيد، السيناريو المصري حرفيًا، من دون أي تطويرٍ أو ابتكار، ليصل، في نهاية المطاف، إلى قتل الحياة النيابية واغتيال العمل النقابي، وإلغاء مفهوم الدولة الحقيقي من قاموس الحياة المعاصرة، لينفرد، وحيدًا، بكلّ السلطات، كما لو كان حاكمًا هاربًا من تاريخ العصور الوسطى.
هل فاجأ، قيس سعيّد، معارضيه بالوصول إلى هذه النقطة التي يعتبر فيها مقاطعة الشعب التونسي الانتخابات البرلمانية دليلًا على الإيمان العميق بالحاكم الفرد الدكتاتور والكفر الصريح بالديمقراطية، بكلّ صورها، سواء البرلمان أو النقابات؟. المؤكّد أنّ جنرال قرطاج منذ زار القاهرة ضيفًا على جنرال مصر الجديدة، وهو يقضم كلّ يوم قضمة من لحم الثورة والدولة التونسيتين، بإيقاعٍ متصاعدٍ من دون أن تكون هناك ردّات فعل، لها صفة الجدّية والديمومة في مواجهة الانحدار بسرعة هائلة نحو الحالة المصرية.
كان قيس سعيّد يركض بالسرعة القصوى على مضمار الطغيان السياسي، فيما كانت بقية أطراف المشهد مقسّمة ومنقسمة على النحو الذي لا يوّفر فرصةً لتشكيل جبهة وطنية قوية تنقذ ما تبقّى من آثار الثورة التونسية الرائدة، إذ اتّخذت عملية معارضة قرارات رئيس تونس وإجراءاته شكل الطقوس الموسمية، التي تبدأ وتنتهي في اليوم ذاته، ثم تعود إلى مهاجعها في انتظار مناسبةٍ جديدةٍ للتظاهر والاحتجاج يصنعها قيس سعيّد بنفسه.
المعنى أنّ الأسى على الاندفاع نحو النموذج المصري لم يكن كافيًا وحده لكبح هذا الاستبداد الذي يتحرّك واثقًا من أنّ المناخ الدولي والإقليمي مهيّأ وداعم تمامًا للقوى المعادية للتغيير الديمقراطي، سواء كان ذلك نابعًا من كراهية متأصّلة لثورات الشعوب، أو ناتجًا عن حالة صفاقةٍ باتت تحكم العلاقات الدولية.
وعلى ذلك، لا ينبغي أن يدّعي أحدٌ أنه مصدومٌ من التوّغل السريع لجحافل الاستبداد في عمق التجربة الديمقراطية التونسية، فالرجل كان يتحرّك فيما الآخرون يتكلمون ... حتى انتهى الأمر بأن أصبح الكلام نفسُه مغامرةً محفوفةً بمخاطر السجن والاعتقال، تمامًا كما حدث في مصر عشر سنوات، أصيبت فيها البلاد بالخرس والعجز، إلا فيما ندر.
أما في الحالة السودانية، فإنّ تصنّع الدهشة من وصول وفد صهيوني رفيع المستوى إلى الخرطوم، عاصمة اللاءات العربية الثلاث الشهيرة (لا صلح لا تفاوض لا اعتراف)، يبدو باعثًا على الاندهاش والسخرية، فرئيس مجلس السيادة السوداني، الجنرال عبد الفتاح البرهان، لا يكتفي فقط باستلهام تجربة الجنرال السيسي في مصر، وإنما يعتبرها نصوصًا مقدّسة ينفّذها بالحرف الواحد.
والحال كذلك، تقول القاعدة الأولى في كتاب قواعد استتباب الحكم إنّ الاقتراب من إسرائيل هو ابتعاد عن إمكانية السقوط من العرش، لذا افعل كلّ شيء لتكون تل أبيب راضية عنك. وقد نفذ البرهان ذلك وأكثر في السنوات الثلاث الماضية، بدءًا من خلوة عنتيبي في أوغندا بينه وبين رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، في فبراير/ شباط 2020 مرورًا بإعلانه صراحة في سبتمبر/ أيلول 2022 أنه سيزور إسرائيل إن وجّهت له الدعوة وتوفرت الوسائل للذهاب ... هكذا قال لوسائل إعلامٍ على هامش اجتماعات الدورة السابعة والسبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك.
وها هو المسار يكتمل الآن بالالتحاق رسميًا بتحالف أبراهام الذي تقودُه تل أبيب وترعاه أبو ظبي، ويلقى إسنادًا هائلًا من الإدارة الأميركية التي تكافئ الأشطر من التلاميذ العرب في حصّة التطبيع.
العرش مقابله التطبيع، تلك هي الصيغة الأميركية/ الصهيونية المشتركة لضمان البقاء في السلطة في الدول المحيطة بالاحتلال الصهيوني، بحيث يكون الإسناد السياسي والدعم المالي مرهونين بتجاوز امتحان مادة التطبيع.
ما يفعله عبد الفتاح البرهان الآن ليس جديدًا ولا مباغتًا، فالرجل زرع ويروي منذ ثلاث سنوات، وهو الآن يحصد المحصول، وهو على يقين، مثل السيسي في مصر وقيس سعيّد في تونس، أنّ الشعب منهكٌ وخائفٌ وأوهن من أن يفعل شيئًا أكثر من تصنّع الدهشة وادّعاء الذهول.
ربما تصبح هذه الشعوب حاضرة وفاعلة في اللحظة التي تنتقل فيها من مساحة الدهشة إلى منطقة الإدهاش ... ربما!