متى ينقضّ النظام اللبناني على الانتخابات؟
لم يكن من عادة النظام اللبناني، على مدى العقود الثلاثة الأخيرة، أن يتنازل ويستجيب لأيٍّ من المطالب الشعبية التي تُرفع في الاحتجاجات، ولا أن يستسلم لأي نجاحٍ تحرزه التحرّكات الجماهيرية عبر انتخابات نقابية، فكيف يمكن له أن يسلّم بهذا الخرق الكبير الذي أحدثته الانتخابات النيابية في جسم النظام؟ وبسبب هذا التعنت المزمن، أوصلت الطبقة السياسية الحاكمة لبنان إلى الانهيار الذي تعيش البلاد فصوله هذه الأيام. وهي في سبيل إبقاء تحكّمها بالشعب وبمفاصل الدولة، ليست على استعدادٍ لأن تجري أي إصلاحات تطالب بها الفئات الشعبية، أو حتى التي يشترطها صندوق النقد الدولي، من أجل منح الحكومة قرضاً تطالب به من فترة طويلة.
من نتائج انتخابات 15 مايو/ أيار إزاحة وجوه تاريخية تُمثِّل قسماً من أقطاب النظام اللبناني، لصالح من أطلقت عليهم تسمية "التغييريين"، وهم من الوجوه الجديدة التي خرجت من رحم انتفاضة 17 تشرين الأول/ أكتوبر (2019)، وغيرها من الاحتجاجات، ما حرم بعض كتل نيابية من تشكيل أغلبية مؤثرة في المجلس. وتعد هذه الجزئية ضربةً قويةً تلقتها الطبقة السياسة المكونة من زعماء الطوائف وزعماء الأحزاب الطائفية المتحالفين مع كارتل المصارف، وهي التي مارست كل أشكال الشيطنة والتخوين والتشكيك بهذه الانتفاضة، ومارست مختلف أشكال الترغيب والترهيب بحقّ المشاركين فيها. وعلى الرغم من كلّ هذه الممارسات، فوجئت بأن روح هذه الانتفاضة قد ظهرت في الانتخابات، في وقت كانت تعتقد فيه أن جذوة تلك الروح قد خمدت، وأن إرادة الاحتجاج قد خَبَتْ.
كان عامل الفقر سبيل الطبقة السياسية لزيادة يأس أبناء الشعب اللبناني، وزيادة شعورهم بالهزيمة التي اعتبروا أنها لحقت بهم
وإذ تعد نتائج الانتخابات من أشكال الرفض والاحتجاج على هذه الطبقة السياسية التي أفقرت اللبنانيين، وسرقت ودائعهم من المصارف، وأوصلت البلاد إلى الانهيار الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، فإنها جعلت هذه الطبقة على يقين بأنّ أشكالاً جديدة تتبدّى فيها روح الاحتجاجات، يمكن لها أن تظهر على الساحة السياسية، أو في أي استحقاقٍ انتخابي جديد، نقابي أو بلدي، أو حتى داخل البرلمان ذاته. لذلك، إمكانية فشل الرئيس التاريخي لمجلس النواب اللبناني، نبيه بري، بالفوز بأغلبية مريحة برئاسة المجلس الجديد قائمة، في ظل ما يمكن أن يترتب على ذلك من إمكانية فرض الوجوه الجديدة تأثيرها لدى تعيين رئيس حكومة من خارج هذه الطبقة، أو حتى لدى انتخاب رئيس جمهورية جديد لا يكون على مقاس الطبقة الحاكمة.
وكانت الضربة الأكثر قساوة التي تلقاها النظام الطائفي اللبناني التي وجهها إليه أبناء جيلٍ ظنَّ أنه دجّنهم طوال السنوات الثلاثين الماضية. وقد مارس من أجل إنجاح ذلك التدجين ترهيباً وترغيباً تضافرت عوامل الفقر والجهل والطائفية في تكريسه. وقد كان عامل الفقر سبيل الطبقة السياسية لزيادة يأس أبناء الشعب اللبناني، وزيادة شعورهم بالهزيمة التي اعتبروا أنها لحقت بهم، نتيجة عدم تحقيق أيٍّ من الآمال التي ربطوها بحقبة انتهاء الحرب الأهلية، وانتظروا تحقيقها بعد نهاية هذه الحرب. هذا اليأس جعلهم لقمةً سائغةً لطوائف دَرَجَ زعماؤها على إغداق الوعود بتأمين فرص عمل، أو بتقديم سلة غذائية مقابل الولاء التام لهم. وتعزَّز هذا مع ممارسة أشكالٍ من التربية الطائفية التي تزيد من خضوع أبناء الطوائف لزعمائها بشكل أعمى، وبلا أي تحكيم للعقل الذي يمكن أن يرشدهم إلى من أوصلهم إلى هذه الحال. لذلك كانت انتفاضة 17 تشرين الأول/ أكتوبر، ومن ثم نتائج هذه الانتخابات، بمثابة الضربة الأكثر قسوة التي وجهها الشعب إلى منظومة الإخضاع الرهيبة التي اعتمدتها السلطة اللبنانية خلال هذه السنوات.
أي معارض لحزب الله أو حلفائه أو الطبقة السياسية القائمة هو، بالضرورة، تابع للعدو الإسرائيلي أو لإحدى السفارات
لذلك، وكما كان متوقعاً، جاء الوعيد المبكّر من هذه الطبقة على لسان رئيس كتلة الوفاء للمقاومة، التابعة لحزب الله، محمد رعد، الذي قال موجهاً كلامه إلى النواب التغييريين، معتبراً إياهم غرباء لا زملاء: "نتقبلكم خصوماً في المجلس النيابي، ولكن لن نتقبلكم دروعاً للإسرائيلي ومَنْ وراء الإسرائيلي"، على اعتبار أن أي معارض لحزب الله أو حلفائه أو الطبقة السياسية القائمة هو، بالضرورة، تابع للعدو الإسرائيلي أو لإحدى السفارات. وهذه الاتهامات اعتاد المعارضون عليها، ولم يعودوا يستغربون توجيهها لهم لمجرّد أنهم ينادون بالتغيير أو الإصلاح. من هنا، يطرأ السؤال: متى سينقضّ النظام اللبناني على الانتخابات النيابية؟ وليس هل سينقضّ؟ لأن من المتوقع، إن لم يستطع فرض إرادته، أن يتبع سياسةً يشلُّ فيها عمل مجلس النواب، ويدخل البلاد في فراغٍ حكومي أو رئاسي، مماثل للفراغ الرئاسي الذي استمر سنتين ونصف السنة، وسبق انتخاب الرئيس الحالي ميشال عون، اذي سبَّبَ ترشيحه خلافاتٍ بين أعضاء الكتل البرلمانية المتحالفة والمتعارضة.
وقد لا يكون الانقضاض على هذه الانتخابات بفرض إلغائها، مع أنه احتمالٌ واردٌ، بقدر ما يمكن أن يكون بالالتفاف على نهج الرفض الذي أتى بالنواب الجدد. علاوة على محاولة تغيير قواعد اللعبة الجديدة التي ساهمت في وصول المعارضة إلى المجلس النيابي وحرمان كتلة حزب الله وحلفائه، أو أي كتلة أخرى، من الأغلبية التي تتيح لها فرض ما تريد على المجلس. والانقضاض يمكن أن يطاول المجتمع اللبناني، بعدما عانى الويلات التي سببتها الطبقة الحاكمة، والتي لا تفعل سوى زيادة العوامل التي أدّت إلى وصول لبنان إلى مرحلة الدولة الفاشلة، وليس تغيير السياسات التي أدّت إلى فشل الدولة. وهي لذلك لا تتنطّع سوى لإدارة الانهيار الذي تسببت به، كونها تعرف أنّ السقوط سيكون مدوّياً يتسبب في أذيتها المترافقة مع أذية الآخرين.